على عهدة الراوي

TT

عندما كانت الأمية مستحكمة في البلد ولم تكن هناك فضائيات وراديوهات وصحف، لم يكن لوكالات الأنباء دور يذكر في نقل المعلومات. اعتمد القوم على ما يقوله الرواة. تاريخنا العربي ليس سوى سلسلة من الروايات عن فلان عن فلان عن فلان... إلخ. واعتاد الناس على ما يسمعونه من الحلاقين والقهوجية والمطهرجية بالنظر لاختلاط أصحاب هذه المهن بالناس وسماعهم لما قيل ويقال. كما أنهم بحكم مهنتهم كثيرا ما اطلعوا على أسرار حياة الناس الخاصة.

برز في كل مدينة عربية أشخاص ذاعت شهرتهم بسبب توليهم هذه الرسالة، رسالة المعلومات. أتذكر من بغداد شخصيتين اكتسبا هذه الشهرة في العشرينات من القرن الماضي، توفيق أجانص وأبو ناجي. كان الأول رجلا بسيطا وضعيف الحال من سكنة محلة الطوب، واحدا من ألوف العاطلين. تمكن في الأخير من القيام بهذه المهمة، وهي التوكل عن العجائز والشيبان في تلبية حاجاتهم التي باتوا عاجزين عن القيام بها، كتسلم رواتبهم التقاعدية وتسديد فواتير الماء والكهرباء ومراجعة الدوائر الحكومية، وهلم جرا. ساعده ذلك على الاختلاط بالناس. يجلس ليعد لهم فلوسهم بينما يسقونه إستكان شاي ويروون له ما سمعوه وعرفوه. وهو بدوره ينقل ما سمعه منهم إلى زبائنه الآخرين.

لم يتمالك الناس غير أن يلقبوه بتوفيق أجانص (وكالة أنباء). وبقدر ما سمعت كانت أخباره أدق من أي وكالة أنباء أو إذاعات عربية.

الشخص الثاني، أبو ناجي كان تاجرا يهوديا يملك بيتا واسعا ينتهي بحديقة يانعة مطلة على نهر دجلة. اعتاد الناس على زيارته لقضاء العصرية في حديقته الباسقة، يشربون الشاي والماء المثلج ويأكلون الكعك معه ويتسامرون. التفتت لذلك غرترود بل، الموظفة في الإدارة البريطانية والمسؤولة عن الكثير مما حدث في العراق في أيام الخير من عهد الملك فيصل الأول.. فانضمت لهذه الجلسات. وراحت تروي لأبو ناجي ما فعلته الإدارة البريطانية وما تنوي القيام به من مشاريع. تخرج المس بل من ضيافته وينصرف أبو ناجي مساء لقضاء الأمسية مع أصحابه في مقهى التجار فيروي لهم ما سمعه منها. ويبادرون بدورهم بترديد ما سمعوه للآخرين.. الإنجليز قرروا فتح مدرسة للبنات في كربلاء وفتح كلية للطب في المجيدية، ومس بل أوصت النجار أبو عيسى لصنع عرش خشبي من خشب «الصاج» لائق لجلوس الملك عند تتويجه.

يسمع الناس كل هذا الكلام فيسألونك: ومن قال لك ذلك؟ تجيبهم وتقول: سمعته من أبو ناجي.

سرعان ما أصبح أبو ناجي لسان حال الإدارة البريطانية من حيث لا تعلم ولا هو يعلم. وبمرور الزمن أصبح «أبو ناجي» كلمة مرادفة في العراق للإنجليز والسياسة البريطانية. تسمع العراقيين حتى الآن يقولون لك ما يجري في العراق، أو سوريا، أو أي بلد عربي أو غير عربي «كله من شغل أبو ناجي».