طاب الحنين إلى أيام صدام!

TT

بعد عشرة أعوام من «حرب الخليج الثالثة»، ترتفع نبرات الحنين إلى أيام حكم صدام حسين، من قبل أطراف عربية وعراقية، كرد فعل على الخلل الاستراتيجي، الذي حدث نتيجة غياب قوة كانت في يوم ما نقطة توازن في حسابات الأمن الإقليمي، وبسبب عدم توصل العراقيين إلى صيغة معقولة من صيغ قبول الآخر في التعايش الوطني، الذي امتد منذ بدء الزحف العربي من جزيرة العرب قبل 1400 عام، وحتى الحرب التي ظهرت بعدها مصطلحات المفاصلة (بطابعها السياسي)، بمسميات تغري البسطاء من الناس، خصوصا الذين يتميزون بالاستماع إلى ما يقوله غيرهم، نتيجة الشعور بقلة المعرفة، وبقايا الشعور بالانقياد لواجهات تفرضها الأحداث.

ومن يراجع التاريخ، يجد أن الحنين ليس إلا رد فعل على إحباط كان مفترضا عدم حدوثه، لولا تدخلات إقليمية كخطة دفاعية تجاه ما قيل عن خرائط جديدة لشرق أوسط جديد، بعضها قابل للمناقشة والتصديق، وبعضها الآخر كان وهما تأسس على قلة المعرفة، فضلا عن قوانين بريمر، وتصاعد العنف، وهاجس الخوف من عودة البعثيين إلى الحكم، وكرد فعل على ما ينشر من معلومات عن فساد فظيع في مختلف مفاصل الدولة «الموالية والمعارضة والدينية والليبرالية»، قدم أشخاص لا خبرة لهم إلى واجهة الأحداث السياسية، في مناطق الحنين ذاتها وغيرها بالطبع.

وبدأ الناس يتحدثون عن المخبر السري، وهو حالة شاذة، مقارنة بقواعد الأمن في البلدان المستقرة، وعن تسخير القوانين بطريقة كان مفترضا أن تأخذ منحى آخر. لكن الذين شدهم الحنين نسوا أن قوانين القسوة قد سنت في أبشع أشكالها في زمن الرئيس صدام. فقد كان الناس يصابون بالرعب إذا تهجم أحد على رئيس النظام أمامهم، لأي سبب، لأنهم إذا لم يخبروا الأجهزة الأمنية والحزب بذلك، مهما كانت درجة القرابة التي تربطهم بالشخص المتهجم، يكون مصيرهم الحكم بالعقوبة المقررة على المتهم وهي «الإعدام». فالمحقق والقاضي وضباط الأمن يقومون بواجبهم القانوني في مثل هذه الحالات، فهل كان القانون منصفا؟

هل كان من الإنصاف أن يساق عشرات من أعضاء قيادة حزب البعث إلى ساحة الإعدام عام 1979 وأفواههم مسدودة بشريط لاصق، أم أن من الإنصاف أن يغتال القادة العسكريون والبعثيون وغيرهم في شوارع بغداد وداخل العراق وخارجه، لمجرد عدم رضاهم عن سياسة النظام؟ وليس من باب الإشادة بل للتذكرة والمقارنة، فإن القرارات كانت تقضي بإعدام كل من يثبت انتماؤه إلى حزب الدعوة، مما حمل المعنيين شحنات غير عادية تجاه حزب البعث، الذي كان هو الآخر ضحية أي اختلاف مع القائد الأوحد عمليا وفعليا وليس نظريا.

صحيح أن الفساد لم يكن موجودا في زمن النظام السابق إلا في حالات بسيطة، إلا أن عوامل المقارنة تختل عند الخوض في الحروب العبثية، التي كان ممكنا الاستعاضة عنها بوسائل أخرى مع إيران لا ترتقي إلى مستوى الحرب الشاملة، والعدوانية المفرطة في غزو الكويت، والتصريحات الساذجة من كبار مسؤولي الدولة من أن النفط الكويتي المضاف للنفط العراقي سيجعل العراق يمتلك أكبر مخزونات النفط في العالم. كأن العالم تحول إلى سلطة الغاب. وتبين أن نفط إقليم كردستان وحده يمكن أن يكفي العراق بعد تكامل استثماره، وليس بحيرات الجنوب النفطية الكبرى.

لكنني أنظر إلى طريقة تنفيذ اجتثاث البعث والتعامل مع كبار القادة العسكريين بطريقة مختلفة عن رؤية الكتل السياسية التي شاركت «كلها» في التشدد تجاه البعثيين في المرحلة الأولى. فقد تسبب التطبيق القاسي في تغيب القيادات الوسطى المعروفة دفعة واحدة، وتركت الساحة لوجوه جديدة لا خبرة لها في السياسة والقيادة والإدارة، ولم تمارس حالة الانضباط أمام المغريات، فحدثت فجوة كبيرة في معادلات التعامل، وأوجد الضياع القيادي في قسم من بغداد وشمالها وغربها توجها نحو التشدد والعنف، ولا يزال العراق يدفع ثمن هذا الخطأ الفظيع، الذي طفت بسببه شخصيات بسيطة على سطح الوزارات والبرلمان.

لذا، بات لزاما تذكرة من أخذهم الحنين بأيام القسوة، من دون رغبة في فتح الجروح، ومن دون المس بالموجودين من بقايا القيادات، وتذكرة النظام القائم بمراجعة الموقف تجاه من وردت الإشارة إليهم هنا، لإعادة النظر في فلسفة القيادة للطرف الذي يفترض أن يكون له دور في الحكم.