شعوب الماساي والإسكيمو تعاني أقل من أمراض القلب

TT

نحن من نكتسب ما يعرضنا للأمراض، وكثيرة هي المصائب الصحية التي نجلبها لأنفسنا بأيدينا، ونحن من بأيدينا كثير من الوسائل التي تحمينا من التعرض لـ«التهلكة» وكثيرة هي طرق الوقاية من الأمراض التي من السهل تبنيها كأنماط صحية لسلوكيات حياتنا اليومية.

لا يخفى حتى على كثير من الأطفال اليوم حقيقة أن كثرة تناول الشحوم والدهون الحيوانية «سلوك» ضار بالصحة، والكثيرون يعلمون أن ثمة شيء يسمى كولسترول، وهذا الكولسترول السابح في دم الإنسان هو بالأصل مادة مفيدة للجسم وضرورية لحياته، ولكنه يتحول إلى سبب في أضرار على شرايين القلب والدماغ حال ارتفاع نسبته، مما يتطلب العمل الجاد على خفضه بوسائل عدة، منها السلوكيات الصحية في نمط الحياة اليومية ومنها تناول الأدوية الخافضة للكولسترول.

هذا ما نعلمه اليوم، وهذا ما نتعامل معه كأوساط طبية وأوساط عموم الناس. ولكن، قبل اكتشاف علاقة الكولسترول بأمراض الشرايين في نحو منتصف القرن الماضي، كيف كان العالم يتعامل مع هذه الأمور؟ وهل كانت أمراض الشرايين شائعة كما هي الحال اليوم؟ وتحديدا، هل كانت أمراض الشرايين هي القاتل العالمي الأول والسبب في وفاة نحو 40% من البشر سنويا وفي كل أرجاء الأرض؟ الجواب لا قطعا. صحيح أن أمراض الشرايين قديمة جدا، والفحوصات الطبية التي أجريت على مومياوات الفراعنة أثبتت وجود ترسبات الكالسيوم في الشرايين، وهي المرافقة لترسبات الكولسترول عادة، إلا أن انتشار أمراض الشرايين لم يكن كما هو الحال اليوم على الرغم من عدم وجود مشتقات الألبان قليلة الدسم وعلى الرغم من تناول غالب البشر للبيض واللحوم والشحوم والدهون وغيرها من مصادر الكولسترول والدهون المشبعة الضارة.

ما اختلف هو كثير بين سلوكيات الحياة اليومية للبشر سابقا وما هو حاصل اليوم. وبعيدا عن الحديث حول ازدياد التوتر النفسي وضغوط الحياة اليومية، وبعيدا عن ذكر انتشار كثير من عوامل خطورة ارتفاع الإصابات بأمراض الشرايين، دعونا ننظر للأمر من الجهة المقابلة، أي من جهة شعوب في العالم ما زالت نسبيا محافظة على براءة «الحياة البدائية» ومدى انتشار أمراض الشرايين فيما بينهم.

شعب الإسكيمو يقطن مناطق باردة في أقاصي شمالي الكرة الأرضية، وطعام هذا الشعب غني جدا بالشحوم الحيوانية. وتحديدا فإن 50% من كمية كالوري السعرات الحرارية في طعامهم اليومي مصدرها الشحوم الحيوانية من الحيوانات البرية التي يصطادونها. والسمنة منتشرة نسبيا بينهم. ومع ذلك فإن نسبة الإصابات بأمراض شرايين القلب منخفضة. وقد تعمق الباحثون الطبيون في محاولات فهم هذا التناقض، وما توصلوا إليه جملة من الحقائق المقنعة والمبررة لهذا التناقض. الأول، هناك فرق بين شحوم الحيوانات البرية والحيوانات التي تتربى في المزارع، إذ إن شحوم الحيوانات البرية والحيوانات التي ترعى العشب البري غالبها دهون غير مشبعة وليست دهونا مشبعة كما في التي تتناول الأعلاف وغيرها من التغذية غير البرية. والثاني أن كثرة تناولهم للأسماك الغنية بدهون «أوميغا - 3» الطبيعية، وتحديدا يتناول 20 ضعف كمية «أوميغا - 3» التي يتناولها الإنسان المعاصر في المدن. والثالث كثرة حركتهم البدنية اليومية وتنقلهم.

شعب الماساي في أواسط جنوبي شرقي أفريقيا مثال آخر، وهم مشهورون بتناول الحليب الطبيعي كامل الدسم ويتناولون اللحوم والشحوم الحيوانية، لدرجة أنهم يتناولون اللحوم النيئة بدمائها، وهي كلها غنية بالكولسترول والشحوم المشبعة. والمنطق يقول إن لديهم بلا شك ارتفاعا في نسبة الكولسترول ولا بد أن لديهم ارتفاعا في الإصابات بأمراض شرايين القلب. ولكن هذا غير صحيح، إذ إن نسبة الكولسترول فيما بينهم منخفضة بشكل لافت للنظر العلمي ونسبة الإصابات بأمراض الشرايين كذلك منخفضة جدا مقارنة بغيرهم من الشعوب. الباحثون الطبيون لاحظوا سببا وجيها، وهو أن متوسط مشي وهرولة الفرد منهم تبلغ نحو 20 كيلومترا في اليوم.

وفي كثير من المناطق العربية، كان الناس يتناولون الحليب ومشتقات الألبان الطبيعية الكاملة الدسم، ويتناولون اللحوم مع شحومها، ويطهون بـ«السمن البلدي» والزبد الطبيعي، ولم تكن أمراض القلب شائعة ولم تكن السمنة والسكري كذلك، وكثيرا ما نسمع الحكمة من كبار السن بقولهم: «كنا نتحرك ونعمل ونحرق كل ما تناولناه، الحركة بركة».

والحقيقة الطبية بسيطة كذلك، الحركة البدنية بركة على الصحة، وتناول الأطعمة الطبيعية بركة على الصحة، وما اختلف على الناس سوى قلة الحركة البدنية وتناول الدهون والزيوت الصناعية المهدرجة وكثرة اللجوء إلى المأكولات السريعة، إضافة إلى عدم التخلص من الهموم والضغوط النفسية بوسائل بسيطة تريح النفس وتقنع بالرزق المقسوم وتقرب أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]