الصراع الطائفي في الخليج: البحث عن المذنب!

TT

تراكمت مجموعة من الأحداث في السنين الأخيرة لتقود إلى تأجيج صراع بعضه خفي وجله ظاهر بين اجتهادين في الإسلام، السني والشيعي في مناطق التماس بين الاثنين. الأحداث الأخيرة صعدت من وتيرة الشقاق منها الأقرب وهو الإعلان عن اكتشاف مجموعة قليلة قيل إنها تنتمي للطائفة الشيعية في المملكة العربية السعودية، في تخابر مع دولة خارجية، أراد البعض أن ينفخ في نار الفتنة دون أن تظهر كل الحقائق وإخفاء ما تسرب أن المجموعة عابرة للطوائف، هذا البعض أراد أن يجير الحدث حتى قبل صدور أحكام محددة، إلا أن الأجواء الملبدة والتسرع المتعصب يجعل آذانا كثيرة تصغي إلى ذلك الخطاب.

ولقد أخذ البعض في الكويت بطرف الموضوع من خلال تنظيم لقاءات تسرب ما قيل فيها على وسائط الإعلام الجديدة وسرى سريان الماء في أرض منحدرة، قيل فيها كلام مرسل تجاه الآخر، بعضه غير موثق والآخر مشبع بمواقف سياسية سابقة، انصب على مجمل الطائفة الشيعية دون تخصيص أو تفريق، ومما سخن الحدث أنه جاء على خلفية سياسية مشدودة، منها أحداث البحرين، والحرب التي تخاض في سوريا. ولم ينأ البعض، كما هو مفترض، بأنفسهم عن تأجيج الشعور الشعبي السلبي، بل صب الزيت على النار في محاولة للتوسل السياسي عن طريق التخويف من الآخر وإظهار شرور الأغيار، دون النظر إلى الثلم العميق الذي تحدثه تلك التخرصات في النسيج الاجتماعي، ودون التفرقة بين القلة والكثرة.

المؤسف أن الزمن الذي نعيشه أصبحت فيه مناقشة أحداث القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) تعني الناس في منتدياتهم ومجالسهم في الخليج وخارجه، أكثر مما تعنيهم قراءة صحف الصباح! وهي أحداث في جلها سياسية تنتمي إلى ذلك الزمن الذي ذهب بخيره وشره، وكثير من أحداثه مضخم ومسيس حسب أهواء الرواة.

أسوأ ما يمكن أن نتصور أن تتحول الاجتهادات السياسية، وهي شرعية، إلى معركة عقدية يغذيها كل من الجهل وطموح السياسيين قصيري النظر، وتخاض وكأنها معركة حياة أو موت، كما حدث في أوروبا القرن السادس عشر عندما تحولت كراهية الأغيار إلى حروب أهلية ضروس بين البروتستانت والكاثوليك، ولم يستطع أي منهما محو الآخر من خريطة الوطن أو الاجتهاد أو الوجود الإنساني، فعادوا بعد دفع ثمن باهظ إلى التعايش.

في الخليج كما في أماكن أخرى هناك تعددية اجتماعية واجتهادية تعايشت لفترة طويلة من الزمن، ولما تدخلت الأطماع السياسية بدا للمتابع أن حربا تكاد تكون أهلية تندلع بين أطراف متعصبة من الشيعة وأخرى من السنة، قليلة في عددها كبيرة في نفوذها، تتزايد في بيئة مركبة من الجهل والسفه لتأخذ الأغلبية المعتدلة والصامتة مع الأسف إلى حافة الهاوية الاجتماعية. وبدا الانتقاء من أحداث التاريخ ذات الوجه المتعصب هو الأكثر شيوعا، وتغييب الأحداث الأهم ذات الوجه السمح، من أجل إبراز وجهة النظر المتعصبة في المكانين، الشيعي والسني، على أنها صاحبة القدح المعلى، أما العقل والعقلانية فتراجعا أمام دعوات التعصب.

في هذا الوضع تغيب قيمة المواطنة وقيم التعايش وقبول الآخر، التي أكدتها أجيال متعاقبة من الناس في هذه المجتمعات نتيجة تجربة تاريخية طويلة، وجدت أن التعايش هو أفضل طريق لإقامة السلم الأهلي.

قيم المواطنة تفرق بين أخطاء فرد أو أفراد والشريحة الاجتماعية أو المذهبية الأوسع المقبل منها ذلك الفرد أو المجموعة، كما أن تلك القيم تقرر أنه لا عقوبة بغير ذنب، وتؤكد أن العقوبة شخصية وفردية لا جماعية ولا تؤخذ الكثرة بجريرة القلة.

هذه القيم هي التي بني عليها الإسلام السمح وانتشاره كان بسببها، فقوة الإسلام هي في تسامحه، حيث هناك أكثر من مليار مسلم، أكثر من عدد سكان الصين، لبعضهم اجتهادات مختلفة وتفسيرات متعارضة، وحتى في المذهب الواحد هناك من الاجتهادات في الفروع ما يختلف عليه، ولكن ذلك لا يخرج المسلم من إسلامه، ذلك هو الوجه الناعم والناجح في الدعوة الإسلامية، أما الخشونة في اللفظ وفي التعبير فتقود إلى تهميش الآخر المواطن وتهيئ لإرهاق المجتمع وإشاعة البغضاء، وأكثر أضرار التهميش هو تجريد مواطنين من تمتعهم بحق المواطنة وتعميم أخطاء البعض على الكل.

يكفى أن نشاهد في الإعلام الغربي تقديم الإسلام على أنه ذو وجه خشن مرتبط بالإرهاب، من أجل تضخيم الخوف المرضي من الإسلام لدى الشعوب الأخرى، ويكفي ما تتناقله بعض الكتب المتطرفة عما يقوله متطرفو فرق إسلامية عن فرق إسلامية أخرى.

لا أحد يريد أن يتجاوز الخلاف السياسي بين جمهورية إيران ودول عربية مختلفة، كما لا يستطيع أحد أن يتجاوز حقيقة أن هناك مصالح سياسية وراء هذا الخلاف والاختلاف، ولكن نقل السياسي إلى مذهبي وتمكين الطارئ من الدائم، هو الخطيئة المميتة، لأنها تعرض المجتمع إلى التأكل وتؤسس إلى شقاق عميق في المجتمع الواحد، وبذر الشكوك وعدم الأمان في النسيج الاجتماعي.

الصمت عن هذا المرض الاجتماعي الذي ينخر مجتمع الخليج بحد ذاته مثلبة، والنفخ في المخاوف المتخيلة من البعض من أجل التشهير أو الشهرة أو التكسب السياسي، هو قريب إلى الجريمة الاجتماعية ويؤسس لشق المجتمع وتقييده في سوار قاتم اسمه الطائفية وبالتالي إضعاف مقاومته لأي تأثير خارجي.

في البحث عن المذنب في كل هذا الأمر يبدو لي أنه ذو شقين؛ الأول الجهل الذي يجعل من عدد كبير يسير وراء الشحن الطائفي، والأمر الثاني هو التكسب السياسي.

آخر الكلام:

اختصرت كل القضايا الكبيرة والشائكة في مصر بقضية باسم يوسف، وانتصر له جون ستيوارت الكوميدي الأميركي الذي يشاهد برنامجه الملايين، كل ذلك بسبب قصر نظر منقطع النظير سببه الضيق المرضي بالرأي الآخر!