«اليوم العالمي» للأرض.. والتأصيل المنهجي لقيمة «الوطن»

TT

هو توكيد للواقع أو تصوير له، إذا قلنا إن إسرائيل تعيش فرحة غامرة، ليس بجهدها الذاتي؛ فهم في داخلهم يعيشون أزمات مركبة: معيشية وأمنية وسياسية.. لكن مصدر فرحتهم هو (غرق) العرب في مشكلاتهم الذاتية البينية، غرقا أذهلهم عن فلسطين وما يجري فيها من قضم واستباحة لأرض فلسطين.. أما المنتشون بالربيع العربي، أو المنتشون بوصولهم إلى الحكم - عبره - الذين عاشوا دهرا على شعار (تحرير فلسطين)، واسترداد القدس.. هؤلاء لا يبدو أنهم استطاعوا التوفيق بين نزوعهم إلى (التمكن) وحمل هم القضية الفلسطينية بصدق وجد، يتمثلان في (فعل) يحافظ - على الأقل - على المتفق عليه في القضية الفلسطينية.. هذا كله مصدر فرحة غامرة لإسرائيل.. ومن الإفك المفترى، ترويج وهم مخدر للشعوب.. وهم أن إسرائيل قد خافت - إلى درجة الهلع - من (الربيع العربي).. وهل يخاف الناس مما هو مصدر طمأنينة لوجودهم؟!!

إن الصراع الحقيقي إنما هو على (الأرض).. وما دفعت الحركة الصهيونية يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين إلا للاستيلاء على (أرض) فلسطين.. يقول إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل الأسبق: «إن الاستيطان هو جوهر الصهيونية».. ومعنى هذه العبارة الموجزة، أن وظيفة الصهيونية الأولى، وأن هدفها الأسمى هو (الاستيطان)، أي الاستيلاء على الأرض بعد طرد أهلها منها.. وبهذا المقياس تعيش الصهيونية أحلى أيامها، من حيث إنها تمارس وظيفتها الأولى وهدفها الأعلى من خلال التوسع المتلاحق في الاستيطان في الضفة الغربية، والتوطن (الأبدي) في القدس الشريف.

وبمناسبة (اليوم العالمي للأرض) - الذي مرت ذكراه منذ أيام - أردنا طرق قضية الأرض؛ لذاتها من جهة، ولأجل (التأصيل المنهجي لقيمة الوطن) من جهة أخرى.

لقد شهدت أربعينات القرن العشرين موجات متتابعة من الاستقلال الوطني، وتحرير الأراضين من الجبروت الاستعماري.. في ذلك الإبان، كان معدل التحرر من الاستعمار يصعد باطراد.. بيد أن (الحالة الشاذة الوحيدة)، المعاكسة لحركة التاريخ، فهي أنه في أواخر الأربعينات من ذات القرن احتلت الصهيونية أرض فلسطين، ولا يزال هذا الاحتلال قائما حتى يوم الناس هذا.

وكان العالم كله شهود زور على هذه الجريمة، بل كان العالم شريكا في جريمة القرن العشرين. كان شريكا بالاعتراف بـ(دولة إسرائيل)، ثم كان شريكا بدعم المحتلين بالمال والسلاح والدبلوماسية، والقوى البشرية التي تمثلت في هجرات يهودية إلى فلسطين.

ولئن سأل سائل: ماذا نعني بالتأصيل المنهجي لـ«قيمة الوطن» أو الأوطان، فإن الجواب هو:

أولا: ثمة نزعة في الثقافة العربية الإسلامية، أو الفكر العربي الإسلامي، تضعف الإحساس والوعي بـ(قيمة) الأرض، أو الوطن. مثلا: وقف زعيم جماعة إسلامية يخطب في حشد من المتدينين فاستهل خطبته بهذه العبارة: «الحمد لله الذي جمعنا على آصرة العقيدة والدين ولم يجمعنا على آصرة التراب والطين»!!

في هذه العبارة مفاهيم أو مضامين لا علاقة لها بمنهج الإسلام نفسه، أي المنهج الذي يدعو إليه ذلك الخطيب!!

1 - فالإسلام نفسه قد أعلى من شأن قيمة الأرض بحسبانها مسرح حياة الإنسان ومستقر وجوده، وساحة عمله وكفاحه وإبداعه وإعماره وعبادته:

أ - «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا». (أي: جعلكم عمارها)

ب - «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ».

ج - «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ».

د - «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا».. وكان الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - كثيرا ما يصف الإنسان بأنه (ابن الأرض).

ثانيا: إن الإسلام ذاته يتطلب وجود أرض أو وطن، تقام فيها المساجد، وتطبق فيها الشريعة، وتنتشر فوقها المصانع والمزارع وجميع مؤسسات (العمل الصالح)، ويدافع عنها أهلوها ضد كل غاز ومعتد.

ثالثا: إن التناقض - المتوهم - بين آصرة الدين وآصرة الطين، لا وجود له في حقيقة الأمر. فالناس جميعا خلقوا من طين في أصل النشأة: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ».. وهؤلاء الناس المخلوقون من طين مطلوب منهم أن يتعارفوا إنسانيا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».. ومطلوب منهم أن يتآخوا في الله: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا».

ولسنا ندري متى نشأت هذه المفاهيم العقيمة السقيمة التي تفتعل التناقض بين قيم ليس بينها شية من تناقض.. فالمسلمون الأوائل كانوا (ناسا) كسائر الناس. وبـ(الغريزة الفطرية) يحس كل إنسان بالارتباط القوي بحيه، وقريته، ومدينته، ويحس بوطنه الأوسع الذي ينتظم الحي والقرية والمدينة. وكان المسلمون الأوائل يتساوون مع سائر البشر في هذا الشعور والإحساس، ليسوا بدعا من الناس. ومن هنا، كان المسلم الذي تنطوي جوانحه على التوحيد الخالص لله - جل ثناؤه - لا يجد حرجا - قط - في الانتماء العرفي إلى قبيلته، وبلده.

وعلى هذا الأساس، انبنت - من بعد - حياة أكابر علماء الإسلام الذين انتموا - عرفيا أو جغرافيا - إلى الأوطان التي ولدوا أو عاشوا فيها.. ومن أمثلة ذلك: البخاري.. والطبري.. والقرطبي.. والعسقلاني.. ومعروف - بيقين - أن بخارى وطبرية وقرطبة وعسقلان قطع من الأرض أو أوطان، وليست عقائد إيمانية.. نعم، أوطان انتسب إليها أولئك العلماء الكبار دون حرج، ودون عقد.

ثم رزئ الناس بـ(بدعة جديدة) في هذا العصر، وهي أن أقواما من البشر افتعلوا تناقضا بين (العالمية) و(السيادة الوطنية). بمعنى أن العالمية - في مفهومهم - لا تتحقق إلا على أنقاض السيادة الوطنية، أو الانتقاص منها، على حين أنه لا تناقض - قط - بين العالمية الرشيدة والوطنية مستقيمة المفهوم. وإنما يحدث التناقض من الفهم الخاطئ لـ(العالمية). ومن المفهوم الخاطئ لـ(الوطنية)، كأن تفهم بأنها (انغلاق كامل) كتدبير للحفاظ على الهوية الذاتية!!

ولعلنا نلخص العبرة في ذلك كله في السطور الباقية:

أ- لئلا يزوغ الهدف عن الأعين والإرادات، يتوجب أن يتركز النضال الفلسطيني على (الأرض). فليس يتصور نجاح أي فصيل فلسطيني وهو لا يجعل الأرض مناط أمره، وهدف سعيه. ولذا، فإنه من الهزل أن نرى خلافات بين هذه الفصائل قبل تحرير الأرض، أيختلفون على شيء ليس بين أيديهم؟!

ب- العض بالنواجذ على (الوحدة الوطنية) في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ولا سيما في هذه الحقبة التي تشهد خططا ممنهجة لتفتيت الأوطان جغرافيا.. أو فكريا وثقافيا، بمعنى أن يظل الناس يعيشون في رقعة جغرافية واحدة، ولكنهم ممزقون فكريا وثقافيا «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى».