حديث هادئ في موضوع ساخن

TT

الحديث عن المواضيع «الساخنة» هو أشبه بالوقوف في وسط العاصفة، والحديث المقصود هنا هو التعليق على الحملة الواسعة في السعودية لتصحيح أوضاع المخالفين لأنظمة العمل والإقامة والكفالة، وهي حملة مكثفة ومركزة وغير مسبوقة بحجمها ولا بطريقتها مما أصاب الوسط الاقتصادي بهالة من القلق والهلع والخوف. والحملة بلا أدنى شك مبررة لأن هناك أسبابا وجيهة لها فحجم العمالة «غير النظامية» كبير وبحاجة للتصحيح ولا شك، وهناك دواع أمنية ملحة وكذلك اقتصادية تستوجب التعامل مع هذا الوضع السيئ، ولكن لا يمكن علاج مشاكل مزمنة بحلول «فورية» ولكنها قصيرة الأمد والأجل.

فهناك أصول للمشكلة هي السبب الرئيسي للازمة التي تتعامل معها هذه الحملة وبالتالي لا يمكن التركيز على بعض الأعراض فقط وإغفال أصل المرض. الوضع معقد ولا يمكن «تحميل» المشكلة كلها على رجال الأعمال وحدهم فهم أيضا مواطنون وجزء أساسي من سوية هذا الوطن. التأشيرات المتناثرة تشكل «بقعا» و«مستنقعات» معيبة في الساحة الاقتصادية ولكن الاهتمام بتنظيف هذه «البقع» و«المستنقعات» دون التعرض «لصنبور» المياه المسبب لها هو نصف علاج وبالتالي نصف حل، وكذلك الأمر بتشبيه العمالة الوافدة أنها «سرقت» الخير من أبناء الوطن و«سلبت» الرزق منهم هو تصوير ساذج لمشكلة أهم وأعمق بكثير؛ فالعمالة هذه جاءت مدعوة وبشكل رسمي وأتت لأن «تسعيرة» سوق المهن وجه بشكل واضح إلى الأدنى سعرا عبر المناقصات الكبرى التي تعتمد على الأرخص سعرا وإن كان ذلك سيكون الأغلى تكلفة من الناحية الاجتماعية كما تبين لاحقا، فالعمالة الرخيصة هي المخدر الأكثر إدمانا من الناحية الاقتصادية بالنسبة للأسواق الخليجية طوال السنوات الماضية حتى تحولت المسألة إلى إدمان وإلى عادة مدمرة، وعليه هناك قرارات كبرى بحاجة لأن تتخذ لتغيير ثقافة تسعير وتوظيف الناس، وكذلك الأمر بالنسبة للاستثمار الكبير في التأهيل المهني والتدريب، لأن الاعتماد على إنتاج الجامعيين فقط بشكل رئيسي في سوق لا مجال فيه للجامعيين وبه تعطش هائل للمهنيين الذين هم يشكلون أغلب الأيدي العاملة الأجنبية سيظل الحل قاصرا وناقصا ولا شك، وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع عمال المنازل وخصوصا السائقين منهم، وحلول النقل العام باتت مسألة لا خيار فيها بل ضرورة ملحة والمصلحة هنا هي الحكم، ويجب السماع لأهل الحكمة من رجال الاقتصاد والدين والاجتماع لا لأهل العواطف و«مطبلي» مدرجات السياسة فقط.

ملف اصلاح الوضع الوظيفي للعمال في السعودية ملف شائك ومعقد، فهو بالأساس ملف اقتصادي ولكن أيضا يشمل الملفات الحقوقية والاجتماعية، وعلى ذلك يجب أن يكون الحل دائما مراعيا لكل تلك المسائل حتى لا يكون الحل مهما كانت نواياه مهمة وصالحة وحسنة في تنفيذه يغفل تغطية كل الجوانب ويتحقق العدل في التنفيذ دون مظلمة على أحد لأن في ذلك قصورا في تحقيق للعدل المنشود. الكفاءات البشرية الموجودة نحن بحاجة إليها وهي تؤدي دورا مهما، وسياسة الإحلال يجب أن تكون مدروسة بحيث يمكن بالفعل تحقيق الإبدال كله ولا تكون لغة الأرقام فزاعة لواقع لا يمكن القيام به وعليه تحقيق هذا الهدف العظيم مسؤولية الجميع، ولا يمكن أن يكون هناك طرف أو فريق واحد ينشد ذلك وعليه لا بد من الإشراك الكامل في هذا الهدف العظيم دون أن يكون أحد «كيس ملاكمة» وهدفا مسموحا للغضب.

الإحلال المتوازن والمسؤول الذي يشارك فيه الكل ويحاسب على الإخلال به الجميع هو ما ينشده المجتمع. نسأل الله التوفيق في ذلك الأمر.