لسان عرب الإفرنجة

TT

مفاجأة سعيدة وأخرى تدعو للتشاؤم والقلق، كشفت عنها نتائج المسابقة المخصصة لانتخاب أهم صفحات التواصل الاجتماعي وأكثرها فاعلية في لبنان. وحين نتحدث عن مواقع التواصل الاجتماعي فإنما نعني، ليس فقط، الثرثرة على «تويتر» و«فيس بوك» وإنما كل تلك الصفحات والمدونات المتخصصة بالأخبار أو التكنولوجيا أو الموضة، وكذلك الصفحات التفاعلية الخاصة بالمطاعم والمقاهي والشركات التجارية وغيرها.

مما يفرح القلب، أن يقول لك القيِّمون على المسابقة بعد تصفيات المرحلة الأولى التي أعلن عنها منذ أيام، والوصول إلى اللوائح ما قبل النهائية، إن لبنان ينمو بسرعة البرق على الشبكة العنكبوتية، والمزاحمة شرسة بين المتنافسين، وإن هؤلاء يقومون بأعمال ابتكارية خلاقة، تستحق التقدير والتشجيع.

أما المحزن فعلا، فهو أن الغالبية الساحقة لهذه الصفحات لغتها هي الإنجليزية، ولم أقع في كل بحثي على أي صفحة عربية، رغم أن ثمة من يقدر الصفحات العربية بنسبة 30 في المائة.

موضوع تغرب النخبة اللبنانية الجديدة، لا يشغل أحدا رغم أنه يطفو على السطح. ليس ثمة من يعتبر الأمر نقيصة ومهانة وطنية. والسؤال الجوهري، ما قيمة كل الجهد المبذول على هذه الصفحات الإنترنتية - علما أن ثلث الشعب اللبناني له اشتراكات على «فيس بوك» - إن لم تكن بلغة يفهمها الناس أجمعون؟

المرض كبير ومزمن. النخبة الشبابية الجديدة التي تصنع حاضر لبنان وبانية سنينه المقبلة، متعلمة على مستوى تربوي وعلمي رفيع. وهي نخبة تجيد على الأقل الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى لغة ثالثة في أحيان كثيرة، أما العربية فهي بالنسبة لهم من هوامش ما تعلموه. غير أن هناك ثلثا لبنانيا آخر، أميا أو يكاد، تعليمه بسيط، وعربيته قد لا تعينه على فهم ما يقرأ. القطيعة بين النخبة والعامة، هذه المرة ليست فكرية فقط، كما كانت الحال في القرن الماضي، حين كان المثقف العربي متهما بأنه يقبع في برجه العاجي بل باتت القطيعة لغوية أيضا.

نخبة مفتونة حتى النخاع بالدفاع عن الحقوق المدنية، والقضايا الاجتماعية العادلة، وهذا إيجابي بالطبع ويثلج القلب، لكنك حين تفتح صفحاتهم على الإنترنت لا تعرف من يخاطبون تحديدا، هل الشعب اللبناني، أم شعب غيره يعيش في إنجلترا؟ هل يعقل مثلا أن جمعية شهيرة وفاعلة تحمل اسم «الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي» تريد أن تجيّش الشعب ضد التعنت السياسي، موقعها مدبج كله باللغة الإنجليزية، بما في ذلك المواقع الجغرافية على خريطة لبنان، ولا ترى بالعربية إلا عبارة أو اثنتين تزينان أعلى الصفحة؟! ثمة ما هو سوريالي حقا في ما نرى، وخاصة أن هذه الجمعية ليست استثناء، فمثلها جمعية «الخط الأخضر»، التي تعنى بالبيئة، وتتوجه للجمهور العريض بالإنجليزية طبعا، وكذلك جمعية «خدمات المتطوعين» التي تكتفي بست كلمات عربية على موقعها تقول «تعلم الاهتمام بالتربية والتطوع وخدمة المجتمع». والاستثناء الذي يجب أن تقف أمامه إجلالا هو جمعية «كفى عنفا ضد المرأة» التي احترمت النساء المعنفات وخاطبتهن بلغة يفهمنها. والكلام على المواقع رمزي، لأنه يجر جملة من المشكلات أكثرها مباشرة هي القطيعة مع من تريد مخاطبتهم، وصولا إلى الإحساس بدونية العربية واحتقارها إلى حد إلغائها الكلي والاستغناء عنها. وعندما حاولت أن أفهم سر إصرار المسارح وصالات الفنون وإدارات جمعيات المجتمع المدني على مخاطبة جمهور عربي بالإنجليزية، حتى عند طباعة الكتيبات والمنشورات، لم يخجل البعض من القول إن الجمعيات في غالبيتها ممولة غربيا، وهي مضطرة لتبرير وشرح كيفية صرفها للتمويل من خلال مطبوعات ورقية ومنشورات ومواقع بلغة يفهمها الممول.

ومع إدراكنا أن ثمة أجندات أجنبية تدير مؤسسات لبنانية وعربية كثيرة، إلا أن الممول الغربي لا بد أن يكون ساذجا كي يقتنع بأنه يصل إلى مبتغاه وإلى جمهور واسع بلغة غير لغته الأم، إلا إذا كان من بين أهم الأهداف شق الصف وحفر الهاوية بين فئتين من المجتمع؛ إحداهما تتحدث الأجنبية وتتداول الأفكار فيما بينها، وأخرى تعيش في بؤسها وعزلتها. الخطورة تتفاقم حين تلمس مدى جهل الشباب لمأساة مخاطبة الناس بلغة أجنبية بينما هم يحاولون الدفاع عن قضية وطنية مثل الخدمات الصحية أو البيئة أو حتى حق الشعب في الحصول على كهرباء. ويخبرني محمد حجازي، وهو أحد الناشطين الفاعلين في مجال التواصل الاجتماعي ومؤسس الجائزة التي نتحدث عنها، أن عالما موازيا للعالم الواقعي السياسي اللبناني شكّله الشباب اللبناني افتراضيا على الإنترنت، وأن هؤلاء لهم برنامجهم الانتخابي، ورؤيتهم الحديثة للدولة، وتصوراتهم لما يجب أن تكون عليه البلاد، حتى أنهم اختاروا أشخاصا من بينهم سيقدمون ترشيحاتهم بمجرد تبلور برنامج انتخابي واضح، وفتح باب الترشح رسميا. محمد حجازي يتحدث أيضا عن اختراق لا بد أنه سينجح به هؤلاء، ضد طبقة سياسية لبنانية تقليدية جامدة عصية، إن لم يكن هذه الدورة الانتخابية فلا شك في دورة مقبلة. ورغم أنني حلمت مع محمد وهو يحدثني عن «ربيع لبناني» لا يشبه غيره، ويطمئنني إلى أن الشباب يشبكون ويتواصلون ويرسمون خطط المستقبل، بثقة وثبات، فإنني حين دخلت إلى هذه المواقع وقرأت وتمعنت، وبعد أن أعجبت بكثير من التحليلات والكتابات الذكية، تحسرت لأنها ستبقى محصورة، تختنق كمدا في دائرتها الإنجليزية الضيقة. وإذا كان هؤلاء يريدون فعلا أن يبنوا بلدا يعيشون فيه سواسية مع مواطنيهم، فعليهم أن يدركوا أهمية اللغة الوطنية كوسيلة وحيدة للوصول إلى كل الناس، وإلا فإنهم في أوهامهم يعمهون.

يقول ابن الجوزي إن ثمة فرقا جوهريا بين الحماقة والجنون.. «الحمق والتغفيل هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا». وبالتالي، فحسن النيات لا يعفينا من إعادة النظر في السبل التي ننتهج. وإذا كان هناك من لا يزال يشك بقيمة اللغة وأهميتها، فعليه أن ينظر كيف أحيت إسرائيل اللغة العبرية من موتها، وأنعشتها وضخت بها الحياة، لتجمع بها وحولها يهود الأرض في فلسطين، وتقيم لهم بفضلها وطنا لم يكن موجودا. نحن لنا الأرض واللغة والفضاء الذي يظللهما، ومع ذلك ضيعنا الأرض، وها نحن نتمنى لو نستفيق ونجد أن ألسنتنا لا ترطن الإفرنجية. ألا نستحق - بعد هذا الجحود - لعنة السماء وسخطها؟!