النكتة المصرية في قفص الاتهام

TT

بعد أن أصدر كتابه «عن الأحلام» في بداية ثلاثينات القرن الماضي، والذي أثبت فيه أن الأحلام ليست أكثر من نشاط زائد داخل العقل، وأن لا وعي الإنسان يقوم بعملية إخراج لها تشبه تماما عمل المخرج المسرحي، وأنها في نهاية الأمر تحقيق لرغبة، وهو بالضبط ما عرفته الشعوب القديمة عندما قالت إن «الجائع يحلم بسوق العيش».. كانت هذه النظرية في ذلك الوقت البعيد من القرن الماضي تعتبر فتحا علميا صادما وكبيرا، غير أن صديقا له أرسل يقول: الغريب في الأمر أنني أحلم أحيانا أحلاما أشبه بالنكتة.

وهنا بدأ فرويد يتساءل: هل لا وعي الإنسان يشترك في صنع النكتة بالطريقة نفسها التي يخرج بها الحلم؟ وكانت الإجابة عن سؤاله هي كتابه «النكت وعلاقتها باللاوعي»، الذي أثبت فيه أن النكتة ليست من صنع وعي الإنسان الفرد، بل هي من صنع وإخراج اللاوعي الجمعي. لا يوجد إنسان صانع للنكتة، بل هو فقط قائل لها. هذا الرجل صاحب العقل الجبار عندما يتناول موضوعا ما فهو يستعرض كافة ما قيل عنه من قبل ويضعه أمامه على مائدة التشريح قبل أن يبدأ عمله، ولذلك بدأ بجمع كل التعريفات التي تناولت النكتة، وأهمها أن النكتة حكم (judgment) ككل الأحكام التي يصدرها القضاة، والتي توصف بأنها عنوان للحقيقة، غير أنه يختلف عن هذه الأحكام في أنه حكم لعوب (playful)، هو ليس حكما ظالما أو خاطئا، غير أنه يعلن الحقيقة، بحيث تفجر الضحك في صدور الناس.

هناك قوة للنكتة، قوة للكاريكاتير، قوة للضحكة، لست أتكلم عن الظرف والظرفاء، الذين يصدرون تعليقات طريفة لفرط حساسيتهم وذكائهم (Wits)، لست أتكلم عن المسدسات مع فائدتها، بل عن المدفعية الثقيلة التي تدك حصون الباطل في حياتنا، والتي تستخدم فقط في الحروب الدفاعية.

الرؤية حولنا غائمة، نحن عاجزون عن رؤية ما يحدث لنا وحولنا بطريقة واضحة، وذلك لأن القيم؛ السلبي منها والإيجابي، تتراكم فوق بعضها البعض، مكونة تلالا ترقد تحتها الأخطاء المعطلة لمسيرة البشر؛ لذلك كان لا بد من قوة نافذة قادرة على الوصول إلى جوهر الأشياء لانتزاع الخطأ من مكانه ووضعه أمام الناس في وضح النهار. هذا هو ما تفعله النكتة، هذا هو ما يفعله الكاريكاتير. النكتة إذن تتعامل مع الخطأ الذي لا يراه أحد بهدف كشفه، وبغير قدرتها على ذلك لا يصح أن تكون نكتة، وربما تكون قادرة فقط على أن تكون نكتة سخيفة، وما أكثر هذا النوع على الساحة.

إذا اتفقنا على أن الإنسان الفرد عاجز عن صنع النكتة، وأن اللاوعي الجمعي هو ما يصنعها، وأن الإنسان الفرد «يقولها» فقط، فما هي الملامح النفسية لقائل النكتة؟ وما هو السبب في رغبته الدائمة في أن يقولها لمن هم حوله؟ ماذا يعني ذلك النوع من الإشباع النفسي؟

قائل النكتة يريد أن يراك ضاحكا، ليس ليسعدك ولكن لكي يتمكن من مشاركتك في الضحكة، هو شخص يعاني من الاكتئاب ويدافع عن نفسه بقول النكتة، هذا هو بالضبط حال كل العاملين في هذه المهنة الصعبة، ومنهم الدكتور باسم يوسف الذي يحقق معه هذه الأيام في مصر بعدة تهم، منها ازدراء الأديان. وهي الواقعة التي قصمت، على ما يبدو، ظهر بعير العلاقات المصرية - الأميركية، وأظهرت في الوقت نفسه قوة علاقات الكوميديا المصرية - الأميركية، فلأول مرة في التاريخ يتضامن صانع ضحكة أميركي هو جون ستيوارت، مع صانع ضحكة مصري في حلف دفاعي ضاحك يعجز رجال السياسة في البلدين عن الوصول إلى مثيل له، هكذا وجدت الرئاسة المصرية نفسها، ليس فقط في مواجهة كوميديان مصري يمكن بسهولة ضبطه وإحضاره، بل في مواجهة كوميديان أميركي شهير أقوى من رامبو. وهو ما يؤكد ما قلته لك الأسبوع الماضي من أن العالم أصبح بالفعل قرية صغيرة، وأن الحرفة أصبحت تمثل فيه رابطة بين البشر من المستحيل تجاهلها.

قلنا إن النكتة تتعامل مع الخطأ الذي لا يراه أحد، ولكن هذا الخطأ الذي لا نراه من الممكن أن نشعر به على نحو غامض إلى أن تأتي النكتة وتكشف عنه أمامنا جميعا. بهذا المقياس تكون أفضل الفقرات الضاحكة التي قدمها الدكتور باسم هي تلك الصورة التي كان رئيس الجمهورية فيها يلقي خطابا وقد وقف إلى جواره المرشد العام يقول له شيئا بصوت غير مسموع، أي أنه كان ينبهه إلى ما يجب أن يقوله، فإذا كانت قوة الكوميديا بشكل عام تعتمد على التناقض الحاد بين المواقف، فنحن هنا أمام فرصة مؤكدة لتفجير الضحك عند المتفرجين، وهو عنصر الاستحالة الذي تحقق أمام أعين المتفرجين، من المستحيل أن يلقي رئيس الدولة كلمة في أي مكان وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ بينما يقف بجواره من يوجهه لقول كلمة ما، هذا هو المستحيل بعينه، وهو نفس المستحيل الذي فجر بتحققه الضحك في البرنامج، يا لها من مهنة خطرة.

ننتقل إلى الجانب الأميركي، إلى جون ستيوارت، كان من السهل عليه العثور على موقع مصري يمكن ضربه بسهولة وتفجير الضحك منه، لقد ناقش التهم الموجهة للدكتور باسم واحدة بعد الأخرى لكي يكشف للمتفرجين أنها تنطبق عليه جميعا هو شخصيا، ثم انتقل إلى المدفعية الثقيلة، وهي تهمة ازدراء الأديان، كان من السهل عليه أن يعرض بعض الخطب القديمة للسيد الرئيس مرسي يصف فيها اليهود بأنهم قردة وخنازير، ثم كلمات من خطبة يطلب فيها من الناس إرضاع أولادهم الكراهية ضد اليهود، أو ضد الصهيونية، أو ضد الإسرائيليين.. ملايين المتفرجين شاهدوا هذه الفقرة وعرفوا أن تهمة ازدراء الأديان يجب ألا توجه للدكتور باسم. أنا على ثقة أن رجال الحكم في مصر قد استوعبوا الآن الدرس الذي عرفه جيدا كل حكام الغرب.. لا تقع في مشكلة مع كوميديان.

الخصوصية في هذا العصر باتت ترفا تعجز الناس عن دفع كلفته، الخصوصية لم تعد أسوارا نتمترس خلفها ونحتمي بها من قيم الحرية في العالم، حرية التعبير لم تعد مجرد كلمات نتشدق بها، نحن في حاجة إلى الضحك لأنه يكشف لنا الأخطاء التي لا يراها أحد. نحن في حاجة إلى العالم من حولنا، نحن في حاجة إلى أفكاره واختراعاته وجامعاته وفلوسه أيضا، لم يعد من حق مخلوق أن يرضع أطفاله الكراهية، عليه أن يرضعهم لبن الحب والحرية والسلام، أو أن يكون شجاعا وغنيا فيستأجر لهم مرضعة ترضعهم لبن البشر الطبيعي لينضجوا بشرا طبيعيين.