الراديو صديق العمر

TT

بانتهاء الحرب العالمية الثانية، أخذت أجهزة الراديو تظهر ثانية في الأسواق تدريجيا. وأخذنا نتفرج عليها في الفاترينات بشره وشوق ونتطلع لليوم الذي نستطيع فيه اقتناء واحد للبيت. وسرعان ما حل ذلك اليوم الميمون وذهب والدي لشراء راديو من ماركة مولارد. لم يكن سانيو وهتاتشي قد خرجا من بطن أمهما عندئذ. وفي ذلك اليوم المشهود، أعلن عندنا إضراب عام في البيت. لم نذهب نحن الأولاد للمدرسة. ولا دخلت والدتي المطبخ، إذ انشغلت طوال الصباح بتنظيف البيت وغسل عتبة الدار استعدادا لوصول الضيف المهم: الراديو.

جلسنا في غرفة الاستقبال، نفرك أيدينا ونردد: «إن الله مع الصابرين». ننتظر بشوق غامر وصول الضيف الكريم. وما أن سمعنا حوافر الخيل وصوت العربانة حتى هرعنا وكأننا كتلة واحدة، لنفتح الباب ونقدم الولاء والاحترام. التففنا حول والدي وهو يحمل الصندوق، ويصرخ أحدنا في الآخر: ابعد يا مؤيد! لا تكلكل بأنفاسك عالصندوق... وأنت يا مظفر لا تتدافع... ابعد شويه، الله أكبر عليك... قولوا باسم الله واتعوذوا من الشيطان يا أولاد...

وفي هذه الأثناء كان أخي إحسان فوق سطح الدار منشغلا بتركيب صاريتين وربطهما بأسلاك امتدت حتى غرفة الاستقبال. شنو هذا؟ قلت له وقال: «هذا الإريال» وعندئذ تيقنت تماما بأنه لا يوجد شيء في العالم لا يعرفه أخي إحسان.

«بسم الله الرحمن الرحيم». قال والدي وفتح الصندوق المقوى وأخرج الجهاز. وما وقعت عليه أعيننا حتى هتفنا في جوقة واحدة: «الله!».

والغريب أن ذلك الراديو المولارد كان يشبه بني آدم في هيئته. راديوات هذا الزمان مجرد مكعبات لا تمت للبشر بصلة. أما في ذلك الزمان فقد كان لها وجه يشبه شكل الإنسان. كانت قمتها محدودبة بيضاوية كرأس الإنسان، أو بوجه الدقة مثل صلعتي تماما. وفي الوسط فتحة السماعة وحولها الأزرار المختلفة تماما مثل العينين والأنف والفم لبني آدم. كانت راديوات آدمية وبنت أوادم. ولا عجب فقد كنا عندما نستمع إليها نصر على رؤية وجهها ونكلمها. وعندما يقف أحد بيننا وبينها نقول له: «ابعد يا ولد. سديت وجه الراديو عني».

وضعنا الجهاز على الطاولة وربطنا الأسلاك وأدرنا الزر وإذا بزوبعة من الأصوات العجيبة، صفير ونخير وشخير، ولكنها ما فتئت حتى انجلت عن صوت فريد الأطرش يغني «يا عواذل فلفلوا» ومددت يدي الصغيرة لأحد الأزرار، وإذا بالأغنية تختفي ويحل محلها ذلك الصفير. ويهرع أخي مظفر يصرخ بي «جر يدك يا ولد من الراديو». ثم ضربني على يدي ضربة جعلتني أصرخ وأنحب. وقضيت بقية النهار أبكي وألعن فريد الأطرش ومن اخترع وصنع الراديو. لم يخطر في بالي أن هذا الجهاز الذي لعنته وشتمته سيصبح رفيقي ومصدر رزقي بعد سنوات، مذيعا من راديو لندن.