دول مجلس التعاون وحقوق الإنسان

TT

تبحث دول مجلس التعاون إصدار «إعلان حقوق الإنسان لمجلس التعاون لدول الخليج العربية»، في خطوة تعني تبني دول التعاون لخطاب حقوق الإنسان كملف رئيسي من ملفات المجلس، في الوقت الذي أصبحت فيه الضغوطات السياسية تمارس باستخدام ورقة حقوق الإنسان أو بتزييف الحقائق حولها ممارسة سياسية شائعة تواجهها دول المجلس بشكل مستمر من قبل الدول والمنظمات الدولية غير الحكومية، فهل هذا يعني تبني دول مجلس التعاون إنشاء نظام إقليمي فرعي لحقوق الإنسان؟.. وما هي انعكاسات توحيد لغة حقوق الإنسان خليجيا على ملفات حقوق الإنسان في دول التعاون؟

لقد أصبحت حماية حقوق الإنسان مكونا رئيسيا في سياسات المنظمات الدولية والإقليمية، فمنذ أن أصدرت الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 تصاعدت حركة حقوق الإنسان العالمية، فتزايدت الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وتنوعت الفئات والقضايا التي تشملها، وأصبح المجتمع الدولي معنيا أكثر برصد «انتهاكات حقوق الإنسان» في الدول.

تاريخيا لطالما عُد التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى خرقا للأعراف والتقاليد الدولية، ولكن مع بداية الألفية الجديدة وتغير بنية النظام الدولي أصبح التدخل في الشؤون التي كانت تعتبر من صميم الأعمال السيادية للدولة أمرا ليس مقبولا فقط، بل يستند إلى «الشرعية الدولية»، وأصبح الحديث عن ملفات وقضايا داخلية خاصة كقضايا حقوق الإنسان والقضايا الإنسانية من قبل الدول والمنظمات مكونا أساسيا في السياسة الدولية. وتخضع دول مجلس التعاون منفردة ومجتمعة لضغوطات من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكذلك منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية بخصوص ملفات حقوق الإنسان.

فقضايا العمالة الوافدة والاتجار بالبشر وقضايا البدون والمطالبات بالإصلاحات السياسية أصبحت عناوين رئيسة للدول وللمنظمات والدول في علاقاتها مع هذه الدول، وبغض النظر عن التقدم التشريعي والواقعي المحرز في معظم هذه القضايا بدرجات متفاوتة من دول الخليج فإن هذه الملفات ستظل سيف ابتزاز مسلطا على الحكومات الخليجية في علاقاتها الخارجية، بغض النظر أيضا عن مدى عدالة أو زيف تلك القضايا.

إن مسألة عالمية مبادئ حقوق الإنسان قد أصبحت اليوم أمرا واقعا، فقد تمت عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان والديمقراطية على المجتمع الدولي باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على البناء للبشرية تحت شعارات اعتبرت تراثا مشتركا للإنسانية جمعاء لا تراث حضارة بعينها، وأخفيت وراء ذلك حقيقة أن هذا الأمر يعكس نتائج تغيير موازين القوى. فمنذ عهد الرئيس الأميركي كارتر تنظر الولايات المتحدة إلى حقوق الإنسان كمصلحة قومية وكمكون أساسي من مكونات السياسية الخارجية الأميركية، وقد واكبت حقبة التسعينات من القرن العشرين الدعوات من قبل العديد من باحثي العلاقات الدولية في الولايات المتحدة إلى أن تلعب أميركا دورا رئيسا في نشر الفهم الغربي لحقوق الإنسان من خلال الدبلوماسية الهادئة والمساعدات، وحتى من خلال العمل العسكري إن لزم الأمر. فانتهاك حقوق الإنسان أصبح من الاتهامات الرئيسة التي توجهها الولايات المتحدة لأعدائها بينما تختار السكوت عنها في الدول الصديقة.

حقيقة، إن الاختلافات الحضارية والثقافية والدينية تعني واقعيا استحالة التوصل إلى فهم محدد في مجال حقوق الإنسان، وهو ما انعكس في التحفظات التي تبديها الدول حال انضمامها لاتفاقيات حقوق الإنسان الدولية موضحة فيها أسباب التحفظ على بعض المواد، وهو ما يجد تفهما لدى معظم الدول. وفي ظل النظام الدولي تقوم الآليات الإقليمية لحقوق الإنسان بدور حيوي في ترسيخ وتدعيم حماية حقوق الإنسان على المستوى الإقليمي، فالنظم الإقليمية لحقوق الإنسان ترتكز قوتها على وجود موروث ثقافي وحضاري مشترك بين دولها، كما هو الحال بالنسبة لأوروبا التي أبرمت الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1950، وكذلك جاء الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، فقد تم إعداده في ظل منظمة الوحدة الأفريقية سنة 1981 ليعكس التاريخ السياسي والثقافي للشعوب الأفريقية.

يتفرد النظام العربي الخليجي بعوامل مشتركة، حيث تتشابه البنى السياسية والقانونية لدوله، والتقارب الجغرافي والحضاري، وتتشابه الأوضاع الاقتصادية، لهذا فأن تبني نظاما إقليميا خليجيا لحقوق الإنسان يبدو خيارا منطقيا أكثر لأنه سيعكس التوافق الحضاري والثقافي والديني بين دول المجلس بشكل منسجم، فالاتفاقيات الإقليمية تتيح للدول الأعضاء أن تعكس خصوصيتها الثقافية ومفاهيمها الخاصة بحقوق الإنسان.

تدرك دول مجلس التعاون أن قضايا حقوق الإنسان غدت أداة لتجاوز السيادات وللتدخل في الشؤون الداخلية ولممارسة الضغوطات من أجل الحصول على تنازلات في الملفات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، فحقوق الإنسان أصبحت لعبة في السياسة الدولية بعد أن أُفرغت للأسف من قوالب المثالية والأخلاقيات والمبادئ السامية التي صيغت من أجلها الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، فدراسة ملفات حقوق الإنسان والقضايا الإنسانية على أرض الواقع، وبعيدا عن الشعارات البراقة المطروحة حول حقوق الإنسان، تقودنا إلى التأكيد على انتقائيتها.

وبدءا مما كنا قد انتهينا عنده، يتطلب تبني مفاهيم حقوق الإنسان الدولية إقليميا تبني عملية تغيير للبنى القانونية لدول التعاون في إطار عملية تغيير وتحول نحو بناء دولة قانون ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان وتعمل على معالجة خروقات حقوق الإنسان في إطار النظام الخليجي في ظل مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، كي لا تصبح هذه الخروقات في ما بعد وسيلة من وسائل التدخلات الخارجية وفرض الضغوطات بحجة حماية حقوق الإنسان أو أخرى. إن تجاوز الأزمات الداخلية الراهنة لدول المجلس لن يتأتى إلا من خلال العمل المشترك على حلها داخل المنظومة الخليجية، مما يعكس تماسك دول «التعاون الخليجي» في مواجهة التحديات.

* كاتبة وإعلامية إماراتية