السياسة السعودية بين الحوار الفكري والابتعاث الخارجي

TT

شهدت الآونة الأخيرة حراكا علميا وزخما معرفيا في حركة الابتعاث الخارجي للدراسة في الخليج عموما، والمملكة العربية السعودية خصوصا، وتجسد ذلك في برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي بمراحله المختلفة، والذي لم يقتصر على الدول الأميركية والأوروبية، بل امتد ليشمل رقعة جغرافية أكبر وتنوعا ثقافيا ومعرفيا من الصين واليابان وكوريا الجنوبية ودول شرق آسيا، وغيرها من الدول.

وهذا الانفتاح العلمي والتنوع الثقافي جاء مصاحبا لسياسة الحوار التي تنتهجها حكومة المملكة متمثلة في مبادرة الحوار على المستوى الوطني وإنشاء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني» لإشاعة وتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية وثقافة التسامح. أما على المستوى الدولي فكان انطلاق مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لتبني نهج الحوار والتفاهم بين أتباع جميع الأديان والثقافات من مكة المكرمة عام 2008، وجاء «مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات» تتويجا لذلك في فيينا. وعلى مستوى العالم الإسلامي فكانت مبادرة خادم الحرمين الشريفين بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية، الذي تبناه ميثاق مكة المكرمة للتضامن الإسلامي 2012 بإنشاء «مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية» في الرياض.

ولكن تأتي أهمية برنامج الابتعاث الضخم مكملة لهذه السياسية الانفتاحية على الثقافات الأخرى وما تحتويه من علوم ومعارف في شتى المجالات، إذ إن الابتعاث لا يعني السفر للحصول على شهادة أكاديمية في أي تخصص كان، بل يعني حالة تبادل فكري وثقافي واجتماعي وإنساني على مستوى الطرفين. لذا كانت وما زالت تأتي أهمية برامج الابتعاث وتبادل الطلبة الزائرين بين الجامعات تعزيزا للعلاقات الدبلوماسية الثقافية، والدبلوماسية الثقافية تعني تعزيز العلاقات بين الدول على مستويات غير سياسية قد تقود لاحقا إلى توافق وانسجام يعزز العلاقات السياسية.

وهذا الحراك الثقافي – الابتعاث - وما يصاحبه من انعكاسات وتبعات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية في الهوية الإنسانية سلاح ذو حدين، إذ إن الطالب المبتعث يقوم بدور شبيه بدور الدبلوماسي، غير أن الدبلوماسي الحقيقي يمارس مهمته المنوطة به داخل حدود السفارة أو القنصلية أو البعثة ومن خلال المناسبات والاستقبالات التي توجبها عليه البروتوكولات الدبلوماسية وتحدد له مسبقا حدود وأطر تلك العلاقة تحت حماية القانون الدولي. بينما يبقى المبتعث منفتحا حتى أقصى حدود في التماهي مع الثقافات الأخرى التي يتعايش معها ويكتسب منها المعرفة ومن دون قوانين صارمة تفرض عليه حدودا مسبقة.

وفي هذا السياق، يعجبني دائما أن أتذكر قصة الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي ينحدر من أصول أفريقية، حيث جاء والده (حسين) من كينيا كطالب أجنبي يدرس من خلال منحة دراسية. والتنوع الإثني الفريد للرئيس الأميركي قاده للترشح بقوة كرئيس أميركي لأن مفهوم التزاوج مع الثقافات شكل حافزا لملايين الأميركيين من ذوي الأصول العرقية والثقافية المتنوعة.

وإن كانت دول الخليج، والمملكة خصوصا، شهدت في العقود المنصرمة خلال تاريخها الحافل بالمتغيرات طفرة نفطية أو اقتصادية أو عمرانية، فاليوم تشهد المملكة في عهد الملك عبد الله طفرة أكاديمية وعلمية من خلال هذا الزخم في الابتعاث قد تقود البلاد إلى مصاف الدول المتقدمة في مجال الاستثمار في العقل البشري.

لكن هذه الطفرة إذا لم تصاحبها سياسة احتواء وتوظيف لهذه العقول، فإنها قد تفتح بابا من أبواب الهجرة نحو الخارج أو هجرة العقول كما تسمى أحيانا، أو تجلب مفاهيم وممارسات أجنبية نحو الداخل. وفي كلا الاتجاهين يحتاج الأمر إلى دراسة متأنية ووضع ضوابط وآلية توظيف.

التوظيف هنا لا يعني التوظيف المرادف للبطالة، وإنما توظيف آلية أو استراتيجية تسمح بقياس الاحتياج وسياسة تطوير الكوادر ومن ثم توظيفها في أماكن النقص والحاجة وفق أنظمة تضمن جدية المبتعث والتزامه التام حيال المنح الدراسية المقدمة له من الدولة، وهي توجب وجود التزام من الطرفين (الدولة أو المؤسسة العلمية - المبتعث) حيال هذه المهمة وكي لا يصبح الابتعاث سياحة مدفوعة الأجر مقدما.

في الثمانينات من القرن المنصرم، شهدت المملكة حراكا مماثلا، غير أن الفرق بين تجربة المبتعثين في الثمانينات أنها اقتصرت على مجموعة محدودة بالمقارنة مع عدد المبتعثين الآن الذي تجاوز 131 ألفا في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم.

وبرأيي فإن تحقيق المقاصد لا يكمن في التركيز على الكمية، وإنما النوعية، والسعي للبحث عن جودة التعليم وليس مسمى الشهادة الأكاديمية. ومع ذلك لا يمكن تجاهل هذا العدد من المبتعثين الذي سيشكل وعي وثقافة البلاد مستقبلا، وما سيصاحب ذلك من تغيير في البنى الاجتماعية والأنماط الثقافية على المدى البعيد.

أخيرا، وبينما جاء الفكر الغربي بفكرة صراع الحضارات، حيث قال المفكر والباحث الأميركي صامويل هنتنجتون إن الحضارات والثقافات باختلافها إسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية وغيرها في حالة تصادم وصراع، أو أن العالم بما فيه من أنظمة رأسمالية وشيوعية، إلخ، في حالة صدام للهيمنة والسيطرة على الآخر كما قال المفكر الأميركي فرنسيس فوكامايا.. فإن مبادرة حوار الحضارات تأتي من مهد الحضارة الإسلامية لتبرهن للعالم أن الإسلام رسالة إنسانية تقوم على أساس تكامل الحضارات وليس صراع الحضارات.

*باحثة في القانون الدولي