من كانت مارغريت ثاتشر؟

TT

كنت في مرحلة الطفولة عندما أصبحت مارغريت ثاتشر رئيسة لحزب المحافظين. كانت في الخمسين من عمرها. وحينما أنظر إلى صورها الآن، أجدها تبدو أصغر مما أتوقع. وليس هذا ناجما عن تأثير تقدمي في العمر؛ فالعيب في ثيابها، إذ إنها تنتمي لمرحلة عمرية مختلفة. ولو لم يطلب مستشار سياسي منها التخلص من قبعتها، لظلت تبدو في حقبة خمسينات ما بعد الحرب التي تتسم بالملابس الرثة طوال فترة حياتها.

دائما ما كان يقال: إن أعضاء البرلمان من حزب المحافظين طالما وجدوها على درجة شديدة من الجاذبية والإثارة. يبدو هذا أمرا لا يمكن تصديقه مطلقا. فمن يمكنه أن يرى مارغريت ثاتشر جذابة – ببشرتها البيضاء التي تعوزها الحيوية وعينيها الزرقاوين الباردتين شبه المائلتين؟ غير أنها كانت أصغر من كثير من زملائها. ففي فترة السبعينات من القرن العشرين، كان معظم أعضاء البرلمان المنتمين لحزب المحافظين ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية؛ ومن ثم، كان من الصعب أن يقع الاختيار عليها كمرشحة لحزب المحافظين من دون أن تكون قد خاضت «حربا ناجحة».

كانت مارغريت في العشرين من عمرها حينما انتهت الحرب. وبالرجوع إلى الوراء، نجد أنه كان قد تم وضعها في موضع مثالي. فقد انتخبت لعضوية البرلمان أمام رجال جيل ما بعد الحرب، ومن ثم، كانت لديها أفضلية بين أعضاء حزب المحافظين متصلبي الرأي ممن يركزون على السوق، بحيث ترأست الحزب نهاية المطاف.

وفي مطلع السبعينات، انقسم حزبها إلى قسمين. فقد أسف نصف أعضاء حزب المحافظين بمرارة على فقدان الإمبراطورية وتوديع التأثير والاستقلالية عبر امتلاكها مستعمرات تمتد عبر أفريقيا والهند والشرق الأوسط وجزر الكاريبي. أما النصف الآخر، فقد أمل في مغادرة المستعمرات خلسة والتفاوض على اتفاق جديد مع أوروبا مسالمة تتطلع للمستقبل. مثلت ثاتشر جيل المستعمرين القدامى؛ الذين منحوها أصواتهم في عام 1975 وجعلوها رئيسة الحزب. في واقع الأمر، كان لهجومها على زملائها الذين تربطهم علاقات ودودة بأوروبا لتركيزهم الاهتمام على «إدارة أزمة انحدار المكانة» عميق الأثر إلى حد أنه يبقى من المستحيل تقديم صورة محافظة لأوروبا حتى في الوقت الحالي، بعد مضي أربعين عاما.

أدرك كيف نظر والداي الليبراليان المنتميان لتيار اليسار إلى مارغريت ثاتشر. لقد شاهدا قبعتها وبقية ملابسها التي تنتمي لفترة الخمسينات من القرن العشرين، كما رأيا أعضاء البرلمان القدامى الذين لا يشغلون مناصب وزارية والذين صوتوا لها يصرخون ضد خيانة الإمبراطورية، وسلموا بأن مارغريت ثاتشر كانت شخصية رجعية خالصة تربطها علاقة صداقة بأي شخص رفض أن يسلم بأن العالم قد تقدم وأن بريطانيا ينبغي أن تتقدم معه بالمثل. بدت الحقيقة مختلفة تماما. فقد أتت ثاتشر لتمثل نوعا من الحداثة الوحشية – لكن كيف يمكن لأحد أن يخمن هذا، بالعودة إلى السبعينات، وبالنظر إلى هذه السيدة ذات المظهر العتيق؟ بدت أكثر تحفظا في الحقيقة مما هو مطلوب – كما لو كانت قد ظلت لفترة طويلة جدا تبدو أكبر من سنها الحقيقية إلى حد أنها قد تحولت إلى صورة ساخرة للعنصر النسائي في حزب المحافظين.

هل تعلم مارغريت ثاتشر الشخصية التي أصبحت عليها في عام 1975 حينما أضحت رئيسة لحزب المحافظين؟ هل كان لديها أدنى فكرة عن التأثير الذي ستحمله؟

من المؤكد أنها لم تكن من نمط الشخصية الرجعية الذي ظنناه، فبعيدا عن الاضطراب الذي ألم بها جراء فقدان الإمبراطورية، نادرا ما فكرت في ذلك بالأساس. لقد خاضت معركة لأجل جزر فوكلاند ولم تبد تعاطفا تجاه المؤتمر الوطني الأفريقي ونيلسون مانديلا. غير أنها سرعان ما تخلت عن روديسيا وغيرها من مستعمرات البيض الأخرى. الحقيقة هي أننا افترضنا أن مارغريت ثاتشر ستكون شخصية رجعية، لكن الحقيقة هي أنها كانت شخصية تقدمية على نحو مفرط. لقد أرادت إعادة إنتاج المملكة المتحدة كإحدى قوى الطبيعة العدائية المغامرة – التي تجرؤ على خوض غمار مخاطرات في مجالي التجارة والشؤون الدولية على حد سواء.

نحن نتحمل عبء النتائج المترتبة على سياستها.

كان من الممكن أن أشب في بريطانيا حيث تعمل فيها شركات عتيقة الطراز بجد ورسخت مكانتها بقوة في المجتمع بتصنيع منتجات من كتل معدنية ضخمة معتمدة على محطات الطاقة التي تعمل بوقود الفحم، لكن ذلك لم يحدث. وكان بمقدور حزب محافظين أكثر اعتدالا أن يحاول تفعيل هذه الصورة لبريطانيا تحقق النجاح، لكن حزب مارغريت ثاتشر رأى أن ذلك أمر مستحيل. وكنتيجة لذلك، كانت المملكة المتحدة التي نشأت فيها دولة أعلنت فيها كل هذه الصناعات الأقدم إفلاسها، ودخل جميع العمال فيها في إضراب عن العمل، ثم اعتمدوا على المساعدات، وتم تصوير كل من يتقدم بشكوى باعتباره عدوا للتقدم أو مؤيدا للرجعية، والأسوأ من ذلك، أنه شيوعي.

ليس من المبالغة التأكيد بشدة على درجة الانقسام التي أصبحت عليها المملكة المتحدة تحت قيادة مارغريت ثاتشر. لقد بغضتها أسكوتلندا، ومع تنامي مشاعر الكراهية، انفصل الأسكوتلنديون شيئا فشيئا عن إنجلترا، وبالتبعية عن المملكة المتحدة البريطانية. إذا ما قامت أسكوتلندا بالتصويت على الاستقلال، فستكون ثاتشر هي الدافع المحرك وراء هذا. فالجزء الأكبر من شمال إنجلترا يكن مشاعر العداء لها بالمثل، بعد أن شهد صناعاته تتدهور وتأثيره يتلاشى. كان إرهاب جماعات الجمهورية الآيرلندية في فترة الثمانينات أسوأ بكثير من أي من الحملات الإرهابية الحالية المستلهمة من عمليات تنظيم القاعدة.

لقد باءت كل جهود ثاتشر لمكافحة الإرهاب، بلا استثناء، بالفشل الذريع. كان خليفتها، جون ميجور، هو من ابتكر وسيلة سياسية لهزيمة الإرهابيين. كانت ثاتشر دائما ما ترى المشكلات في صورة معارك. لذلك، كنا جميعا نخوض معارك وحروبا طيلة الوقت.

بصراحة، استنزف ذلك قوانا.

وحينما تمت الإطاحة بثاتشر في النهاية، جنحت الأمور للسلم بصورة أكبر. بات يمكن الإشارة إلى بريطانيا الآن بتوصيف عالم ما بعد ثاتشر. بدلا من الجذور المتأصلة، أصبحت لدينا علاقات سريعة التطور، وتكنولوجيا متطورة كبديل للصناعة عتيقة الطراز، وخدمات عوضا عن المصنعين. بل إن الأشياء التي لم نحلم بها قط في الثمانينات، مثل الإنترنت، يتجلى فيها إلى حد ما طابع ثاتشر. إنها تستأثر بكل الثناء واللوم في العالم – وهي علامة تميز شخصية سياسية استثنائية بحق.

* مؤلف وكاتب سيناريو مقيم بين لندن وبيت لحم ويكتب لـ«الغارديان» و«تليغراف» البريطانيتين بشكل دوري