.. لا تغادروا مصر

TT

في كلمته التي ألقاها خلال قداس تأبين ضحايا الاشتباكات الطائفية التي شهدتها مصر خلال الأيام القليلة الماضية، قال الأنبا رفائيل سكرتير عام المجمع المقدس: «لن نغادر مصر.. فليس بسفك الدماء وانعدام الأمن تحكم البلاد». هذا الكلام مقلق من ناحية وإن كان فيه أيضا جانب يبقي باب الأمل مفتوحا في أن يسود صوت العقل والحكمة في مواجهة المحاولات المتكررة لإشعال فتنة طائفية في مصر.

مصدر القلق هو أن قطاعات كبيرة من المسيحيين لا تشعر بالاطمئنان، وترى أن هناك من يريد تهجيرها من خلال الترهيب، وإثارة القلاقل والفتن الطائفية لنسف التعايش بين المصريين. أما ما يبعث على الأمل فهو ردود الفعل الواسعة داخل مصر استنكارا لهذه الأحداث، ورفضا لمحاولات إشعال الفتنة وضرب إرث التعايش الممتد لآلاف السنين في البلد. وكم كانت بليغة رسالة الأنبا رفائيل التي قال إنه يوجهها «لمصرنا» بأن المسيحيين لن يغادروها، وهي رسالة نقلت وسائل الإعلام أن المشاركين في القداس ردوا عليها بهتاف «دي بلدنا». فهذا التصميم يبعث على الأمل بأن مساعي القلة التي تريد إحداث فتنة طائفية لن تنجح، وأنه حتى لو دفع البعض إلى الهجرة بسبب المخاوف، فإن الغالبية باقية في بلدها، وعازمة بمؤازرة غالبية المصريين على تغليب التعايش، والتصدي لمن يريد ضرب وحدة مصر، وتفكيك نسيجها الاجتماعي، وإغراقها في مستنقع العنف الطائفي.

خطاب الشحن الطائفي بات ملحوظا في عدد من المنابر الإعلامية، وبالذات القنوات التلفزيونية المحسوبة بشكل أو بآخر على التيار الإسلامي في مصر، حيث بات مألوفا أن يخرج البعض مستخدما لغة وعبارات مسيئة فيها كثير من الإسفاف بحق المسيحيين. الأدهى من ذلك كان استخدام بعض القيادات الإخوانية للغة تنطوي على التهديد للأقباط، في خطابات رصدتها وتناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، مثلما جرى تناقل الكثير من التصريحات التحريضية الصادرة عن شخصيات قيادية في حزب النور السلفي أو من المحسوبين على تياره.

أجواء الشحن هذه وجدت ترجمتها في المضايقات والاعتداءات التي تعرضت لها سيدات شاركن في مظاهرات احتجاجية ضد حكم «الإخوان»، إذ روى بعضهن لوسائل الإعلام أن عددا من مناصري النظام اعتدى عليهن بالضرب وبالشتائم بعد وصفهن بأنهن مسيحيات و«ساقطات»، علما بأن بعض من تعرضن للاعتداء كن في الواقع مسلمات.

خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية كانت هناك أيضا تقارير عن قيام مجموعات من أنصار التيارات الإسلامية بمنع الناخبين الأقباط من الدخول إلى مراكز الاقتراع باستخدام أساليب التهديد والترهيب.

إن المرء يصاب بالحيرة عندما يسمع قياديا إخوانيا مثل عصام العريان يدعو اليهود المصريين الموجودين في إسرائيل إلى «العودة إلى بلدهم مصر»، بينما يحاول البعض تهجير الأقباط الذين ارتبط تاريخهم بالمحروسة، ويقوم محسوبون على التيار الإسلامي يتصدرون قنواته التلفزيونية بالتحريض ضدهم بأقذع العبارات، ويرددون كلاما لا يمكن أن يفهم إلا على أنه محاولة فجة لإشعال فتنة طائفية.

إن هناك كثيرا من الأمور التي يصعب فهمها في مصر منذ أن اختطفت ثورتها ووئدت الكثير من الآمال والأحلام التي رافقتها، لكن تسارع وتيرة الأحداث الطائفية وارتفاع لهجة الشحن الطائفي، هو أصعب الأشياء على الفهم السوي.

الأحداث الطائفية ربما لا تكون جديدة في مصر، لكنها كانت أحيانا وسيلة لجأت إليها الأنظمة لصرف أنظار الناس عن أزمات داخلية أخرى. تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى ما كشفت عنه التحقيقات من أن قيادات في وزارة الداخلية تورطت في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية في مطلع رأس سنة 2011 عندما كان نظام مبارك يواجه ضغوطا داخلية قوية قبيل اندلاع الثورة، وكان الهدف، كما يبدو، هو إشغال الناس بافتعال أزمة طائفية. المحير أنه منذ الثورة تكررت الأحداث الطائفية وتصاعدت لغة الشحن، سواء في فترة الانتخابات، أو خلال جدل الدستور، أو في مفاصل أخرى كان فيها شد وجذب بين أطراف سياسية.

كثيرون قد يلجأون لنظرية المؤامرة الخارجية لتبرير أو تفسير محاولات إشعال الفتنة الطائفية، ورغم أن مثل هذا الأمر قد يكون موجودا، فإن المسؤولية الأكبر تبقى داخلية.. وجزء كبير منها يتحمله النظام الحاكم، خصوصا إذا كان هذا النظام يغض الطرف عمن يؤججون الخطاب الطائفي في سبيل فرض رؤيته وتوجهاته، وتمرير سياساته بأساليب ملتوية، وبعقلية تآمرية.

الخطورة أن اللعب بالورقة الطائفية يبدو مثل اللعب بإشعال عود ثقاب فوق برميل بنزين مفتوح داخل بيت مأهول، فالنيران التي ستنطلق قد تؤدي لإحراق كل شيء وقد لا يسلم منها أحد.

ما تحتاجه مصر ليس النفخ في نيران الطائفية، ونشر التطرف وأجواء الكراهية أو توتير الأجواء بين مكونات المجتمع، بل إشاعة ثقافة التسامح وروح التعايش، واحترام التنوع الثقافي والديني، وترجمة الكلام عن دولة المواطنة إلى واقع يعيش في ظله كل المصريين، ولا يشعر فيه أحد بالتهميش أو بأن حقوقه مصادرة، ومواطنته منقوصة، وهويته غير معترف بها.

عندما كتبت مقالا بعنوان «أبعد من جريمة الإسكندرية»، نشر في هذه الصحيفة في 5 يناير (كانون الثاني) 2011، أرسل قارئ عراقي مسيحي وقع باسم آشور العراقي تعقيبا نشر في حينه، كتب فيه ما جعلني أحتفظ بالرسالة، لما حوته من كلمات بالغة الدلالة في تقديري. قال آشور: «قتل تنظيم القاعدة اثنين من أولاد خالي في الموصل قبل ثلاث سنوات، وكان الهدف من ذلك نشر الفتنة بين أبناء البلد الواحد. لكن تلك المحاولة أو سواها فشلت في دفعنا إلى الرد بقتل أبناء جيراننا، أو أي من أصدقائنا المسلمين، ممن لا ذنب لهم في كل ما جرى، والذين كانوا هم أنفسهم أول من اكتوى بنيران إرهاب (القاعدة) ومثيلاتها من المنظمات المتطرف.. وفضلنا الهجرة على أن تلطخ أيدينا بدم إخواننا المسلمين المسالمين الذين عشنا معهم أيامنا الحلوة والمرة».. أتمنى وأنا أتذكر ذلك، ألا تنتشر الطائفية في مصر، وألا ينجر المصريون وراءها.

يتمنى المرء أن تصل الرسالة إلى المصريين كافة، وألا يضطر أي إنسان لمغادرة بلده، لأن الوطن يجب أن يتسع للجميع.

[email protected]