روسيا و«مسألتها الشرقية»

TT

اصطلحت كتب التاريخ الأوروبية على تعريف المشكلات الدبلوماسية والسياسية التي خلفها ضعف الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر بـ«المسألة الشرقية».

عمليا، ما أدرجه الأوروبيون تحت عنوان «المسألة الشرقية» كان قصة صراع الدول الأوروبية النافذة آنذاك على تقاسم تركة «الرجل المريض»، أي الدولة العثمانية، بعد أن أوشكت على الانهيار واختل التوازن العسكري والدبلوماسي بينها وبين الدول الأوروبية الصناعية.

ورغم أن فرنسا كانت السباقة يومها في «إقناع» الباب العالي بضرورة منحها «امتياز» حماية المسيحيين الكاثوليك والأماكن المقدسة في كل أرجاء الإمبراطورية، فسرعان ما لحقت بها كل من بريطانيا وروسيا في المطالبة بامتيازات مماثلة لبعثاتها التبشيرية والتجارية، مشرعين بذلك الباب واسعا على تغلغل النفوذ الأوروبي داخل أراضي الإمبراطورية المريضة وتوسعه إلى حد تحوله إلى حكم إمبريالي مباشر لدول المشرق العربي.

أول عاهل أوروبي أطلق لقب «الرجل المريض» على الدولة العثمانية كان القيصر الروسي نقولا الأول. وما لم يعطِه التاريخ حقه في سيناريو طرح «المسألة الشرقية» للمساومات الدولية على طاولة الوراثة الأوروبية لـ«الرجل المريض» كان – ولا يزال - دور المطامع الروسية في أراضي الدولة العثمانية، بدءا بالسيطرة على دول ومقاطعات البلقان والقوقاز، وانتهاء بتحقيق حلم الإمبراطورة كاترين الثانية في الحصول على موطئ قدم للأسطول الحربي الروسي في مياه البحر المتوسط «الدافئة».

نادرا ما يعيد التاريخ نفسه، ولكن تشابه بعض فصوله يبرر التساؤل عما إذا كان دور موسكو في سوريا اليوم يشكل امتدادا «تاريخيا» لدبلوماسية روسية تقليدية حيال الشرق الأوسط بعد أن أصبح المشرق العربي أجدر بلقب «الرجل المريض» في القرن الحادي والعشرين من الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر.

ولكن الملاحظ أنه رغم دروس التاريخ لا تزال المقاربة البوتينية لـ«المسألة الشرقية» الجديدة في القرن الحادي والعشرين أقرب إلى التوق الرومانسي إلى دبلوماسية القرن التاسع عشر منها إلى التعاطي الواقعي مع الأحداث.

لا جدال في أن رغبة روسيا في الاحتفاظ بنفوذها في الدولة المتوسطية الوحيدة المفتوحة الأبواب لها، واستطرادا، المحافظة على تسهيلاتها العسكرية والتموينية في ميناء «المياه الدافئة» في طرطوس، قد يكون الهدف الأبرز من إعادة «استنساخ» الدبلوماسية القيصرية حيال المشرق العربي.

ولكن الفارق الأبرز بين المقاربة القيصرية لـ«المسألة الشرقية» في القرن التاسع عشر والمقاربة البوتينية في القرن الحادي والعشرين أن العهد القيصري كان أكثر واقعية في سعيه لتحقيق أهدافه، إذ وضعها في إطار تفاهم أوروبي شبه جماعي على تقاسم تركة «الرجل المريض». أما اليوم فإن روسيا تجد نفسها شبه موجودة في متابعة أهدافها في سوريا، باستثناء دعم صيني يقتصر على مشاركتها في استعمال حق الفيتو لإحباط قرارات التسوية الدولية ودعم آخر إيراني هو أقرب إلى العبء الدبلوماسي منه إلى المكسب، نتيجة العزلة الدولية التي تعاني منها وإيران والمخاوف التي يثيرها ملفها النووي.

ولكن بعد سنتين من تفجر الثورة السورية برزت ظاهرة واقعية، وإن متأخرة، في المقاربة الروسية للنزاع السوري تمثلت في اقتراح الرئيس بوتين وقف إمدادات السلاح «إلى جميع الأطراف» في سوريا، ما يوحي بأن موسكو بدأت تلمس عجز السلاح عن حسم الأمور لصالح النظام السوري المتهاوي.

ولكن هذا العرض الواقعي لن يكفي لإطلاق التسوية السلمية ما لم يقترن بعرض آخر لا يقل عنه واقعية، هو «تعديل» - وربما تصحيح - مفهوم موسكو لقرارات جنيف الداعية إلى انتقال سلمي للسلطة في دمشق بحيث يلتقي مع تفسير كل العواصم الغربية له، أي أن يشمل استقالة رأس النظام من منصبه لقاء ضمانات معقولة له ولأتباعه ولسلاح جوه الحزبي.

في وقت أصبح فيه تكرار موسكو التزامها بقرارات جنيف للتسوية السلمية خشبة الخلاص الوحيدة المتاحة لها للخروج من تورطها بـ«المسألة الشرقية» بحل يحفظ ماء الوجه - وربما أيضا تسهيلات ميناء طرطوس – تتقلص باطراد خيارات موسكو «السورية» بحيث لم يعد مستبعدا أن تصبح الخاسر الدولي الأول من انهيار النظام السوري.