طريق الآلام المصري كله مطبات!

TT

الجميع مشدود لما يحدث في مصر، طريق المطبات السياسية العنيفة منذ عامين وحتى الآن ما زال مستمرا، وما زالت المطبات تفاجئ الجميع، دون أن يكون لدى أي طرف سياسي مصري من الأدوات ما يجعله يتفاداها، وربما تنقص البعض الشجاعة للاعتراف بوجودها أصلا.

في يقيني أن مصر تعاني آلام ميلاد حركة الإخوان المسلمين قبل أكثر من ثمانين عاما، فقد ولدت الحركة في ظروف تاريخية واجتماعية وسياسية، مختلفة تمام الاختلاف عن ظروف تمكينها من الحكم في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهنا المفارقة، فمسيرة «الإخوان» مناقضة تماما للمسيرة السياسية الدينية في تركيا الحديثة مثلا، حيث لا تعاني الأخيرة تراكمات الماضي وثقل الإرث بقدر ما قدمت حلولا للحاضر.

كتب حول حركة الإخوان المسلمين الكثير، بعضه معادٍ وبعضه مناصر، وقليل منه يمكن وصفه بالموضوعي، مثال على المعقول من الكتابات، كتاب صدر عام 1950 بالإنجليزية، وترجم إلى العربية مؤخرا تحت عنوان (الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة)، قدم له مطولا الكاتب علي العميم، وكتبه جيمس هيوارث دن - الرجل الذي كان يعمل لفترة في نهاية ثلاثينات حتى أربعينات القرن الماضي في السفارة البريطانية في القاهرة، وتعرف على الحركة ورجالها من قرب، ولأنه كتب ونشر في ذلك الزمان يستطيع المراقب أن يفهم منه، بشكل معقول، صيرورة الحركة وتطلعاتها، فالكتاب لا تشوبه مرارة المعارك اللاحقة، ولا تقلبات المواقف المستجدة.

حركة الإخوان صاغت جل أدبياتها في بيئة الحراك السياسي والاجتماعي المصري المحتدم قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها بقليل، وكانت بيئة يكتنفها احتلال بريطاني لمصر، وأحزاب تتناوب الحكم، بعضها صنيعة القصر في ذلك الوقت، وبعضها شعبية تقودها نخبة في أعلى الهرم الاجتماعي، كما أنها ظهرت في عالم صراع آيديولوجي محتدم بين النظامين، الرأسمالي العالمي، والاشتراكية الدولية المكتسحة لعواطف الشعوب المقهورة وقتها، وكلاهما في نزاع على الموارد والنفوذ، وعلى خلفية نستولجيا ضياع حكم إمبراطورية إسلامية هي الدولة العثمانية، التي شكل تاريخها نصف التاريخ الإسلامي.

من هناك، جاءت أدبيات الحركة غامضة، وإلى حد كبير مشوشة متطلعة إلى المرآة العاكسة، وبعضها آنية الطابع مثقلة النكهة السياسية في إطار مقدس، وعلى رأس الأفكار، إقامة دولة الخلافة، التي أعتقد أنه لا توجد في عصرنا فكرة مستحيلة التنفيذ مثلها.

في ظروف الميلاد تلك، تكونت أفكار «الإخوان» الأولى التي استمرت من دون تطوير كثير، بل إن بعضها - نتيجة العنت الذي واجهه رجال الحركة - تراجع إلى التشدد في أكثر من منعطف. تعامل «الإخوان» في ظروف ما قبل ثورة يوليو (تموز) مع الجو السياسي السائد ببراغماتية يحسدون عليها، فأيدت بعض رؤساء الحكومات واغتالت بعضهم الآخر، بل كان العنف إحدى أدواتها المميزة، ودخلت معترك الانتخابات وانسحبت منها، وتآمرت مع الضباط في انقلاب على الحكم، ثم ألجأتها قلة مرونتها إلى التهميش ثم المطاردة.

كان المؤسس حسن البنا رجل تنظيم وحشد، لكنه لم يكن رجل علم فقهي متعمق، وكان من الطبيعي أن يتخلص من بعض رجاله الأوفياء؛ إن أصبحوا لا يحتملون مناوراته السياسية، كما حظر على تابعيه إطلاق لحاهم إلا بموافقة منه، كما شرح الكتاب، الآنف الذكر، بإسهاب في أكثر من مكان.

من مسيرة الحركة، التي تقوقعت على نفسها طويلا، نبتت أفكار، يمكن أن توصف بأنها أفكار معتلة سياسيا، منها فضل «الإخوان» على غيرهم من المواطنين، بمعنى التعصب الشديد لعصبية الأخوة على غيرها من مؤهلات المواطنين الآخرين. من هذا المنطلق، صار الحديث اليوم عن «الأخونة»، وهو ليس حديثا يطلقه الأعداء السياسيون، بل هو واقع نابع من صلب تفكير قديم يرى الراحة والألفة في الأخ القريب ونبذ المواطن مسلما أو غيره، إلى درجة أن البعض يرى أن من يخرج عن «الإخوان» يخرج عن الدين، ومن ينقد «الإخوان» ينقد الدين! وهذا يفسر الموقف الخطابي للبعض في الأشهر الأخيرة، الذي زاد من الاحتقان إلى درجة العنف ضد الأغيار من خارج التنظيم.

الخطيئة الأخرى لـ«الإخوان»، في اعتقادي هي نظرتهم أن الديمقراطية هي طريق صعود واحد لا رجعة منه، للحصول على السلطة والبقاء فيها، وبما أن هذه السلطة لها نكهة مقدسة، فلا بد أن تكون دائمة، وهي التي تقود إلى دولة الخلافة، حيث يكون الخليفة فيها سيدا مطاعا في المنشط والمكره.

بالعودة إلى الكتاب، يلاحظ الكاتب أن حسن البنا أعلن نفسه خليفة قبل شهور من اغتياله في 12 فبراير (شباط) عام 1949، ولم يتبع جنازته وقت تشييعها أحد، حيث كان التنظيم مطاردا.

فكرة الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، لا تفسر فكرة الأخونة المشاهدة فقط، بل تفسر أيضا الموقف من الجيش المصري، الذي هو، حسب تكوينه تاريخيا، منذ أن وصل الضباط إلى السلطة منتصف القرن الماضي، نافر من أدلجة العسكر، وهذا يجعلنا نناقش تقرير صحيفة «الغارديان» (المسرب) نهاية الأسبوع الماضي، الذي يشير إلى تورط الجيش في قتل المحتجين إبان انتفاضة المصريين ضد حكم مبارك قبل عامين! من منظور إلصاق سلبيات بالمؤسسة التي ما زالت خارج (الأخونة). البقاء في السلطة هو - منطقيا - الوصول إلى دولة الخلافة، والتهديد الممكن يأتي من القوة المنظمة، أي من الجيش، فلا مناص إذن من تشويه صورة له مصبوغة بمعاداة للحريات وقاتلة للشعب، حتى لا يفكر منتسبوه في الانقلاب على السلطة وهي في مرحلة التمكين! ذلك هو تفسير تسريب التقرير، الذي قيل إنه لم يصل بعد للرئيس!

المفارقة اللافتة في ذلك الكتاب، ما كتبه حول توقعاته (فيما لو تسلم الإخوان المسلمون السلطة) في مصر، وأذكر أن الكتاب نشر عام 1950. يقول: «الأجانب لن يكون لهم مكان في مصر»، وهذا في الغالب تكفلت به سلطة العسكر على مر ستين عاما، كما يرى أن الضحية الثانية، إن صح التعبير، هي المرأة المصرية، التي سوف تفقد الكثير مما أنجزته من حرية عمل وتعليم، وكانت توقعاته أن «يعاد تنظيم التعليم بالكامل»، كما تفرض رقابة على الإعلام، وتتعرض النشاطات التجارية للانحسار، إلا أنه يرى أن «الإخوان» عليهم التعامل مع البنوك الحديثة ونظم المحاسبة وسوق العملات والأسهم، مما يفرض عليهم «الاقتباس من غيرهم».

المعضلة أنه بسبب ظروف النشأة، وتكوين أفكار معارضة لما هو قائم في ذلك الوقت، والاقتراب إلى عواطف الجمهور المتلقي لحشد الأنصار، سوف تواجه «الإخوان» مشكلات عميقة في إدارة الدولة تشوبها التناقض الحاد، وهذا ما يوصف اليوم - بعد ستين عاما من نشر الكتاب - بطريق الآلام المصرية. فمعظم المشاريع التي ترغب مصر الدولة في تنفيذها اليوم، تعتمد إما على التمويل الخارجي أو على أنظمة إدارية حديثة مفارقة للنصوص، ويد عاملة فنية ومدربة، وبالضرورة يأتي انتماؤها الآيديولوجي في المرتبة الثانية بعد مؤهلاتها العملية والفنية التي تحتاجها الدولة الحديثة.

في مصر آلية احتباسية لافتة هي الارتكان إلى أمل الخروج من النفق، وتوزيع هذا الأمل الذي استخدم كثيرا في الأنظمة السابقة، وهو اليوم يستخدم، ولكن بنكهة إضافية مقدسة للأفكار والأشخاص.

من المحتم لأي عاقل أن يرى النتيجة واضحة، أجاءت غدا أو بعد سنوات، وهي أن الاحتباس في ظروف النشأة يتناقض مع أجندة الحاضر، وهي اليوم إطعام وتشغيل وأمن وتداول للسلطة، دونها يبقى كل ما هو ممارس خارج السياق التاريخي، ويفسر تسارع المطبات غير الآمنة.

آخر الكلام:

تزايد في الخليج الحديث عن مقياس ريختر، حتى الهزل، بسبب الهزة الأرضية، التي أصابت إيران قريبا من مفاعل بوشهر، الذي هو أقرب إلى مدن الخليج منه إلى بعض كبرى مدن إيران. شعر السكان بالهزة على طول الساحل العربي، وقربت أيضا مشاعر تشرنوبل، الذي ما زال ملايين البشر يعانون تأثرهم بالإشعاع القاتل، وبانتظار مقياس ريختر الثاني، يبقى أبناء الخليج ضحايا محتملين في مصيدة التكبر والجهل لدى الجيران!