السودان: عودة الغائب

TT

الحدث الأبرز الذي شهدته الساحة السياسية السودانية في الآونة الاخيرة تمثل في انعقاد مؤتمر الحركة الأسلامية أواخر الشهر الماضي. وتتمثل قيمة هذا التطور في انه أعاد الشكل المؤسسي للحركة الى العمل والعلن لأول مرة منذ عقد من الزمان عندما تم حل تنظيم ومؤسسات الجبهة الاسلامية القومية التي تمكنت من الوصول الى السلطة عبر الانقلاب الذي قاده الفريق عمر البشير. المفارقة تمثلت في انه في الوقت الذي قام فيه النظام الجديد بحل التشكيلات السياسية التي كانت قائمة، فان القوى السياسية المعارضة المحظورة رسميا، ظلت تمارس عملها تحت الأرض بينما كان حل الجبهة الاسلامية حقيقيا رغم تسلمها زمام السلطة! وأصبحت مرجعية الحكم في يد الأمين العام السابق الدكتور حسن الترابي وحده.

خطوة الحل هذه أثبتت الأحداث اللاحقة خطأها بسبب غياب المرجعية المؤسسية خاصة والهدف تأسيس دولة اسلامية، وهو ما يثير اشكالات سياسية وفقهية، ليست لها حلول جاهزة. وأسهم اتباع النظام لسياسة التجربة والخطأ واتباع أسلوب القمع والمناصرة في تمكين عضويته من مفاقمة هذه الاشكاليات، وأدت في النهاية الى الاطاحة برجل التنظيم الأول وعراب النظام الدكتور الترابي نفسه.

الأصوات الداعية الى إعادة بعث الحركة كانت ترتفع منذ قترة ليست بالقصيرة، خاصة مع خروج الخلافات الى العلن بين مختلف أجنحة الانقاذ وهو ما عبرت عنه مذكرة العشرة في ديسمبر 1998، التي انتقدت أسلوب الترابي في تسيير شؤون الحركة والدولة، وهي الخطوة التي فتحت الباب أمام مواجهة اكتملت في غضون عام بتهميش الترابي سياسيا ودفعه الى تشكيل حزبه الخاص به أخيرا.

لكن طوال هذه الفترة لم يشأ أي من الجناحين العودة الى القواعد وبعث الحركة من ناحية مؤسسية لتصبح الحكم في الخلافات المتنامية. على ان اكتمال عملية الانشقاق بين جناحي البشير والترابي وهجوم الأخير على النظام بالطعن في شرعيته واسلاميته، دفعت أهل الحكم للرد عبر اعادة بعث الحركة مرة أخرى وتوفير الغطاء الاسلامي اللازم للنظام، خاصة وهو قد بنى مشروعيته كلها على مرجعيته الاسلامية.

الحضور الكثيف للمؤتمر، الذي تجاوز عدد المدعوين رسميا بنحو الالفي شخص، وحضور مجموعة من الاخوان المسلمين بقيادة صادق عبد الله عبد الماجد، الذي انشق عن التنظيم بقيادة الترابي قبل أكثر من عقدين من الزمان لاعتراضه على ظروف وشروط المصالحة التي تمت وقتها مع نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري، كل هذا يشير الى الرغبة العارمة في جمع شمل عضوية الحركة التي ظلت مثار استقطاب ورقما يعتد به في الساحة السياسية السودانية لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان.

على ان تلك العودة تثير أسئلة بأكثر مما تقدم من اجابات. ومن ايجابياتها انها أعلنت عن مسؤوليتها تجاه النظام القائم حاليا في السودان واعتبرته «ثمرة مجاهدات الحركة على مدى نصف قرن من الزمان»، كما أشار بيانها، وهذا اعتراف مهم رغم مجيئه متأخرا، فقد سعت الجبهة ومن الناحية التكتيكية لنفي صلتها بالانقلاب وممارساته في الفترة الأولى، لكن هذا الاعتراف على تأخره لا يلغي العديد من الأسئلة المهمة والمبدئية مثل الموقف من العملية الانقلابية ابتداء. والسؤال ليس أكاديميا، فمرور أحد عشر عاما على بقاء النظام لا يلغي طرح هذا السؤال. والذي لا يؤمن بالديمقراطية ويعتبرها فقط وسيلة للوصول الى الحكم، واذا فشل فيها يمكنه اللجوء الى الخيار الانقلابي، يظل ذلك ديدنه دائما. وتكتسب هذه النقطة أهميتها لأن الحديث الكثير الدائر حاليا عن المصالحة والوفاق يشمل في ما يشمل النص على التداول السلمي للسلطة. ومثل هذا الحديث يصبح بدون معنى في وجود قوة سياسية تعتقد انها تمثل الاسلام، وان لها كل الحق في تطبيقه بالطريقة التي تراها وبكل السبل المتاحة لها. ويؤكد هذا الروح التي سادت والكثير من الاشارات في أحاديث المتكلمين والأوراق التي قدمت ان الدولة القائمة ستكون موجودة الى الأبد.

كما ان القول باسلامية الدولة القائمة والاستعداد للدفاع عنها يعيد الى الأذهان الحديث عن ثوابت الأنقاذ، التي لن تتنازل عنها، واذا كان هذا هو فهم الحركة المنبعثة وأهل الحكم من ورائها، فإن هذا يجعل من أحاديث الوفاق تمارين للعلاقات العامة.

وقد لا يُعنى المراقب بالوضع الذي حددته الحركة لنفسها أن تصبح منبرا تربويا تنشط في خارج الميادين التي تعمل فيها الدولة والمؤتمر الوطني، أي الحزب الحاكم، لكن هذا الوضع يشير الى الاشكالية التي تعاني منها الحركة وتراجعها عن الطرح الذي تقدم به الترابي بأمل أن تنفتح الحركة على المجتمع بكلياته. فالترابي يرى، وهو محق، ان تنظيما سياسيا يقوم على قاعدة دينية، هي الاسلام في هذه الحالة، يجعل نفسه تلقائيا محصورا بين أهل هذه الملة، وبالتالي يتقاصر طموحه أن يصبح مؤسسة وطنية مفتوحة للجميع، رغم ما يمكن أن يبديه من مرونة تجاه مختلف القضايا الخلافية. لذا سعى الترابي، ولو من الناحية الشكلية، الى استبعاد الصفة الاسلامية عن دستور الدولة وعن الحزب والنص على المواطنة معيارا تحدد به الحقوق والواجبات. وتتزايد الحاجة الى تغليب الصفة الوطنية على الدينية مع تولي التنظيم لمقاليد الحكم، الأمر الذي يفرض عليه ولو مظهريا أن يبدو وكأنه تنظيم لكل أهل السودان، لا لمجموعة معينة منهم.

اعادة بعث الحركة الاسلامية تثير تلك الاشكالية مرة أخرى، وهي كيف يمكن أن يصبح تنظيم ديني مفتوحا لكل مواطني البلد رغم وجود آخرين من ملل ونحل مختلفة؟ وتجربة الانقاذ في السنوات الماضية لا تساعد كثيرا لافتقادها عنصراً أساسياً وهو غياب المصداقية، اذ كانت الدولة تطرح نصوصا دستورية، وتمارس سلوكيات مختلفة، وهو ما يجد أفضل تعبير عنه في تسلل القيادات الجنوبية التي آثرت العمل مع نظام الانقاذ في الداخل، وآخرها ما يتردد عن بقاء الدكتور لام أكول في الخارج وربما انشقاقه مرة أخرى، وذلك بسبب عدم التزام النظام بالاتفاقيات التي وقعها معه.

مؤسسو الحركة الجدد قصروا نشاطها على دور تربوي غير سياسي، وهو تصرف يبدو انه يحاول من ناحية تجاوز التضاربات التي أدت الى الخلافات التي عصفت بوحدة القيادات خلال العامين الماضيين، كما انه يعيد تأكيد الحقيقة القديمة المتجددة عن أن جهاز الدولة أصبح هو المحرك الأساسي للنشاط السياسي والتنظيمي، وهو ما يقصر دور الحركة الاسلامية على مساندة الحكم وتوفير الغطاء اللازم له في مواجهة مناكفات جناح الترابي وطعنه في مؤهلات النظام الاسلامية.

في تجارب السودان وتجارب أخرى معاصرة، فان العديد من الأنظمة الانقلابية تتمترس وراء شرعيتها التي خرجت بها الى الناس رغم تغيرها في الشكل والجوهر. وفي الأذهان ان نظام مايو ظل يلهج باشتراكيته حتى بعد أن بويع النميري اماما للمسلمين. والنظام الحالي سيظل يلهج باسلاميته بينما تركيزه الاساسي سيكون على سيطرته على مفاصل الحكم وتمتين وجوده هناك، وهو لن يكون مدفوعا للخروج من قوقعته تلك، الا اذا فرض عليه تحديد خياراته سواء من قبل طرف جناح الترابي أو من بقية القوى السياسية المعارضة.