الكوفة والبوليس السياسي

TT

جميل من العراق ان ينتبه، مع كل ما حوله وما فيه، الى ذكرى تأسيس الكوفة ليحتفل بها هذا الشهر، فهي مدينة مظلومة، وتستحق وقفة انصاف تعيد اليها بعض الاعتبار الذي كانت تفقده تدريجيا منذ تأسيسها على زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب.

والبصرة والكوفة في تاريخ العراق مثل اختين تنال احداهما التقريظ كله، فيظل اللوم والتأنيب والتعنيف للاخرى. فها هي البصرة تخرج على صعيد الفكر بمأثرة الاعتزال وتقدم حركة متكاملة للتجديد الشعري منذ بشار وابي نواس والتجديد النثري منذ ابن المقفع والجاحظ، فلما نضج النحو، وصار للكوفة مدرسة اسوة باختها الكبرى احتقروا مدرستها وغلطوها، ونسبوا اليها جميع الاخطاء بل وافتعلوا معارك ينهزم فيه نحاتها دائما امام الخصوم البصريين.

وعدم الثقة بالكوفة سياسية الطابع وتعود الى ايام الخليفة المؤسس الذي ضاق ذرعا بكثرة ثوراتها وانتفاضاتها وشكاواها ضد امرائها، فأعطاهم الخيار وقال: انتقوا منكم اميرا لأوليه عليكم، فاختاروا أبا موسى الاشعري، فرضخ لرأيهم وولاه، لكنهم ما لبثوا ان انتفضوا ضده، فقال عبارته المأثورة: من عذيري من اهل الكوفة ان استعملت عليهم القوي فجروه، وان وليت عليهم الضعيف حقروه.

وفي رواية اخرى لا تختلف عن هذه كثيراً حفظها الطبري ان المغيرة بن شعبة رأى الخليفة الثاني مهموما في المسجد، فسأله عما به فقال: واي نائب اعظم من مائة الف لا يرضون عن امير ولا يرضى عنهم امير.

وتوصف الكوفة قبل الحجاج بالغدر والنفاق والتقلب بل ويرسم بعضهم صورة كاريكاتورية لولاء اهلها وعهودهم، فقد ارسل اليهم الحسين بن علي كما هو معروف ابن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ البيعة له مقدما منهم قبل قدومه، فاستجابوا له بحماسة غريبة وبايعه 18 الفا منهم في المسجد، فلما جاءت اخبار تولية عبيد الله بن زياد على الكوفة بدأوا بالانصراف عن مسلم.

اما الصورة الكاريكاتورية لذلك الانصراف، فتجدها عند المسعودي والبلاذري والطبري وابن قتيبة اذ يقول هؤلاء ان الجمع الغفير الذي بايع مسلم بن عقيل رسول الحسين بدأ ينسل تباعا، فكلما اشرفوا على زقاق انسل منهم ناس، فما زالوا يتفرقون حتى أمسى مسلم وما معه الا ثلاثون نفرا، فلما واصل السير بقي منهم عشرة، فقصد ابواب كندة بهم ثم التفت وراءه واذا ليس معه انسان فاحتار في اي طريق يمضي ولم يجد من يرشده. وبلغة الطبري فقد مضى على وجهه يتلدد في ازقة الكوفة لا يدري اين يذهب.

ويمكن فهم شخصية الكوفة السياسية من خلال الظلم الذي وقع عليها، فقد كانت حائرة في بداياتها وما ان بدأت تبلور شخصيتها، وتتحول الى مدينة للتشيع حتى استتب الامر لبني امية، فرموها بأشرس ولاتهم كزياد والحجاج وعبيد الله بن زياد ويوسف بن عمر، والعادل بين هؤلاء الرهط قتل منهم الالوف فما بالك بالاقل عدلاً وهو باجماع المؤرخين الحجاج الذي اطلق على اهل الكوفة اسم عبيد العصا، وسامهم بها كسياسة وحيدة لكبح ثوراتهم وانتفاضاتهم المتكررة ضد الامويين.

وفي العصر العباسي لم يكن اهل الكوفة احسن حالا فقد فرض عليهم الخليفة المنصور حظر التجول ليلا ومنع تجمعاتهم، وارسل مناديه فيهم ينذر برسالته: ان امير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لاحلقن رأسيهما ولحيتيهما ولأضربن ظهريهما...».

وزاد فوق هذا، فاخترق المدينة من داخلها بالجواسيس ومعظمهم من الصيارفة وملأها بما يعرف في عصرنا بالبوليس السياسي ثم طبق فيها قبل صلاح نصر سياسة زوار الفجر.

ويقول الرواة عن هذه الظاهرة العربية الاصيلة التي استنها المنصور ان كل من كان يتهم بالوقوف ضد الدولة العباسية كان يتعرض للغضب الفوري دون تحقيق، ويمهل حتى اذا غسق الليل وهدأ الناس فينصب العسس سلما على منزل الرجل ثم يصعدون، فيأخذونه ليقتل دون جلبة او ايقاظ لمن حوله من الجيران.

وهذا اسلوب ألعن من اسلوب العتاولة المعاصرين الذين يطرقون الابواب قصدا لترويع الجيران او لقلة السلالم ـ ربما ـ وبيت القصيد ليس هنا انما في تلك المدينة التي دفعت ثمنا باهظا على مدار التاريخ لانها كانت محل غضب الولاة والحكام في كل العصور وآخر مآسيها تدميرها بالقنابل بعد انتفاضة 1991.

وحين تغضب الدولة على مدينة فان الناس يقاطعون شعرها، ونثرها، ونحوها وفكرها، وما الحط من شأن النحو الكوفي الا احد اشكال هذه المقاطعة السياسية التي تأخذ بعض الاحيان شكلا رصينا، فتلبس لبوس العلم، وتستخدم المنطق، والتحليلات الفكرية السفسطائية والفكر، والعلم بريئان قطعا من هذا التجديف والتحريف.