ذلك العقد

TT

سئل زميل كان يحاضر في مجموعة من طلاب الإعلام، عن «افضل» العقود بالنسبة اليه، فأجاب بلا تردد: «الستينات». ولماذا؟ «لأنني كنت طوال ذلك العقد في العشرينات من العمر». لكن هل كان العالم نفسه افضل؟ «لا ادري، لكن فلنفرض معاً بعض الاشياء وبعض الاسماء. لقد كان رئيس اميركا جون كينيدي، وليس جورج بوش، الأب او الابن. هل يستطيع احدكم ان يتحمل ابتسامة جورج بوش؟». الأب ام الابن؟ «لا ادري. الخيار لكم، وكان رئيس فرنسا شارل ديغول ورئيس وزرائه جورج بومبيدو، اكبر وربما آخر استقلاليين في تاريخ فرنسا. وكان من رواد مقاهي باريس ألبير كامو وجان بول سارتر. هل قرأتم «الطاعون» او «المتمرد»؟، وكان المغنون للناس رجالاً من طبقة فرانك سيناترا. وهنا، في العالم العربي، كان خيارنا بين ام كلثوم وفيروز. هل تفضلون نجوى كرم؟ وكان هناك امل في كل مكان: افريقيا تتحرر وآسيا تقدم نهرو وذو الفقار علي بوتو وشو ان لاي» (وماذا عن ماو؟ «مبروك عليكم ماو. لقد كان غارقاً بين المترجمات في حديقة الياسمين. هل انتم ايضاً من الذين يقرأون المطبوعات التي تصدرها وزارة غوبلز»؟). والأمم المتحدة كانت في عهدة آسيوي آخر، يو ثانت. وكان رقيقاً ومكوناً من تراب الحرية وذكريات الاستعمار وكتابات جورج اورويل. هل قرأتم اورويل في بورما؟ هل تذكرون رائعته: «كيف تقتل فيلا»؟ وهل يذكر احدكم محمد علي كلاي وثقافته ورسالته وقبضته وسمفونيته فوق الحلبة. ام تفضلون مايك تايسون وقضمته؟ هل تذكرون لورانس اوليفيه واودري هيبورن (سيدتي الجميلة) وشارلي شابلن وريتشارد بيرتون؟ مع مَن اقارنهم اليوم؟ لا ادري. انني لم اعد اذهب الى السينما. لكنني اعرف ان بين حظوظ جيلي، اننا عندما كنا نقف في صفوف الانتظار، كنا نفعل ذلك من اجل ان نشاهد فاتن حمامة. وكانت نجاة الصغيرة تغني اذا كتب نزار قباني ولحن محمد عبد الوهاب.

«لماذا ليس الخمسينات او السبعينات؟ لا ادري. ربما لأننا في الخمسينات لم نكن قد بلغنا مرحلة الادراك وفي السبعينات دخلنا فوراً في الشيخوخة. اصبح كل شيء لا يطاق مرة واحدة: فكرة «الثورة» او التغيير اصبحت في ايدي «الالوية الحمراء»، وفكرة القومية العربية اوكلت الى السي شانشيز راميرز، وبدأ العقد بالتذابح في عمان وعندما انتصف غمس ثوب لبنان بالزيت ثم اشعلت فيه النيران. لا ادري. من منكم يريد السبعينات؟ انه العقد الذي ارغم فيه ريتشارد نيكسون على الاستقالة لأنه «كذب» في شأن اقتحام «ووترغيت» وليس لأنه احرق كمبوديا. وهو العقد الذي ظهر فيه بول بوت، باسماً حتى اللحظة الأخيرة، الى ان مات محفوفاً بمليوني هيكل عظمي. وانتقلت فرنسا من ديغول الى ديستان. ومن الانتماء الى البير كامو الى الانتماء الى جان جاك سرفان شرايبر. اما الستينات فهي العقد الذي ارغم فيه المتظاهرون الاميركيون دولتهم على الخروج من فيتنام. انه الجيل الذي حاول ان يغسل آثار الحرب العالمية. وهو العقد الذي عقدت فيه المصالحة بين المانيا وفرنسا، اشهر مصالحة في التاريخ. والعقد الذي اصبحت فيه كلمة فاشية مرادفة للعار او للجنون. والعقد الذي وضع فيه تيتو يوغوسلافيا على خريطة الحضارة قبل ان يرميها الذئب الى بئر الافاعي. كان عقدا جميلاً ما بين مرحلتين من المجازر الكونية. ومن المحزن انه كان ايضاً عقد النكسة. كان ذلك محزناً.