معركة لف دخان بين الطيب صالح وطه حسين في ميدان المتنبي

TT

درس الطيب صالح أشعار المتنبي، وحفظها، واطلع على كل ما كتب عنها وعن حياته. كل ذلك في إعجاب أكيد وحب صادق. وفي مواصلة لأحاديثه عن ضرورة البعد عن الغموض، وعن ضرورة تحلي الناقد بالحب ورحابة الصدر، وألا يقول الشاعر أو الكاتب ما لم يقصده، يقول: «المعنى يا جماعة أقرب منالاً من كل هذه المماحكة». وذلك عندما قولوا صديقه المتنبي وأسهبوا في تفسير بيت شعر له، رغم اعترافه بأن قصيدة المتنبي، المشار إليها برمتها قصيدة فاترة، غفل من روح عبقرية المتنبي، فقد تكلفها تكلفاً، ربما ليدهش ببلاغتها ومحسناتها ابن العميد. وفي نظره، أن البيت الذي تكالب الشراح عليه، ليس فيه معنى طريف ولا تصوير مدهش.

الطيب منصف، لا يناصر على الخطأ أو ضعف المعنى، رغم عشقه لأشعار المتنبي. لكنه بعد هذا الانتقاد الواضح، يهب لنجدة صديقه: «والمتنبي، كما نعلم لا يقول الشعر العظيم هكذا. لا بد له من أشياء تحرك سواكن عبقريته. حينئذ يحلق في سموات لا يصلها شاعر غيره. لكن لا بد من الناقد المحب الذي يمنحه هذه المهلة». يضرب الطيب مثالين للدراسة القائمة على الحب، كتاب الدكتور حسن أبشر الطيب عن الشاعر العباسي، وكتاب العميد الدكتور طه حسين عن أبي العلاء المعري. أما من أمثلة الدراسة القائمة على البغضاء، فقد ذكر الطيب كتاب الدكتور العميد أيضاً عن أبي الطيب المتنبي. من هنا تبدأ المعركة الأدبية المحتدمة التي قادها الطيب صالح، مستخدماً يراعه ضد كتابات الدكتور طه حسين عن أبي الطيب المتنبي.

كيف لا يعاند الطيب صالح الدكتور طه حسين، وهو يعتبر المتنبي، «نساج الأحلام المستحيلة». والبيت الذي أثار الجدل، ضمن قصيدة لأبي الطيب في مدح سيف الدولة:

تُهاب سيوف الهند وهي حدائد فكيف اذا كانت نزارية عرباً وقد شاع هذا البيت والخلاف حوله بين جمهرة شراح المتنبي، ومنهم الواحدي النيسابوري، كما يقول الطيب، والذي يقول باختصار في رأيه حول معنى البيت: «يقول الشاعر إن السيوف تهاب مع انها حديد لا عقل عندها، فكيف يكون حالها في الخوف منها اذا كانت عربية نزارية. يعني أن سيف الدولة ليس بحديد هندي بل هو عربي نزاري فيكون أحق بالخوف». ورأي لشارح آخر (العكبري)، الذي قال ان سيف الدولة يعمل بنفسه، اذ السيف الهندي يعمل بغيره. الا أن الطيب صالح يعود ليقول، ان هذا الشرح لا يفهم الا اذا قبلت أن المقارنة ليست بين سيف وسيف، بل بين السيوف اطلاقا وبين سيف الدولة الذي هو السيف والضارب بالسيف في آن، فكأنه يضرب نفسه بنفسه، وكأنه ذلك السيف السحري، الذي تقول الأسطورة الانجليزية أنه كان سيف (سير لان سلوت)، من فرسان المائدة المستديرة، أيام الملك (ارثر) في (كاملوت)، يتساءل الطيب لم لا؟ لماذا لا يجعل المتنبي من حلب مملكة اسطورية مثل (كاملوت) ومن سيف الدولة بطلا أسطوريا مثل الملك (آرثر).

أثير هذا الموضوع في القاهرة في لقاء بمنزل الدكتور جابر عصفور ـ صديق الطيب صالح ـ وهو الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، ضمت الندوة أيضا الدكتور محمود مكي، أستاذ الأدب الأندلسي بجامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية. كان الدكتور مكي الوحيد بين الحضور الذي لم يتعرف عليه الطيب من قبل، وهو جمع من كبار العلماء نساء ورجالا. لذلك جلس بجواره موجها أغلب حديثه اليه. يقول الطيب: «وقد شجعني أيضا، أن الدكتور محمود مكي، الى جانب علمه الواسع، أخو نادرة وطرفة ودعابة، وقد تطاولت عليه أول الأمر في ميدانه ـ عمدا ـ وذلك شأني مع هؤلاء العلماء الكبار، كي أحصل منهم على فائدة. وهم قد يمنعهم التواضع أن يلقوا بعلمهم جزافا. وقد علمتني التجربة أنك لا تستفيد منهم إلا بقدر من الاستفزاز، في حدود الوقار والاحترام لطبيعة الحال».

والموضوع الذي أثاره الطيب مع الدكتور مكي في مجال تخصصه، هو موضوع الاندلس والعرب. حيث طرح رأيا خلص اليه منذ زمن، وهو أن العرب قد أخطأوا بدخولهم أسبانيا والتراب الأوروبي، لأنها، كما يؤكد الطيب، أرض ليست (صديقة) لهم بطبيعتها، وكان حتما أن تجلوهم عنها طال الزمان أم قصر. «والبلاد مثل البشر، منها ما يهش لك، ومنها ما يكشر في وجهك، طردوا عنها طردا بعد نحو ثمانية قرون، ولم يتركوا وراءهم الا بعض أطلال، وكلمات عربية في اللغة الاسبانية. أما التراث العلمي والفكري والفلسفي، فهو تراث عظيم، لولا أن الذين استفادوا منه هم الأوروبيون الذين بنوا عليه نهضتهم الحديثة. العرب والمسلمون لم يستفيدوا من ذلك كله الا قليلاً». ويتابع الطيب رأيه، بأن العرب لو اتجهوا جنوبا في أفريقيا، لكان خيرا لهم. لأن افريقيا أرض صديقة، عرفت العرب قبل الاسلام بقرون في شمالها وشرقها وغربها. «تكاد تكون امتدادا للجزيرة العربية».

لم يقبل الدكتور محمود مكي رأي الطيب، وهذا ما توقعه، بل مضى يفنده. ويعترف الطيب للدكتور محمود بالعلم الغزير والمعرفة العميقة بتاريخ اسبانيا وتاريخ العرب في الاندلس واجادة اللغة الاسبانية، «لأنه عاش ردحا من الزمن في اسبانيا»، كما عرف أيضا أن كل ذلك أسعده جدا، حيث استفاد من الدكتور محمود فائدة، (ما كنت لأحصل عليها لولا تطاولي وجرأتي). وعندما قادهما الحديث الى «ساحل أبي الطيب المتنبي، وذاك لعمري بحر لا أبالي إن أنا ألقيت بنفسي في خضمه، يكون ما يكون». وفعلا رغم ادراكه أنه يقارع عالما فذا، هو عضو مجمع اللغة العربية، ومن جمهرة شراح المتنبي، ورغم تأكيده: «وأنا من أكون؟» أنا بالنسبة له أعزل.

وليدلل الطيب على الخلافات بين من تصدوا لأشعار المتنبي، استشهد بأبي البقاء العكبري، الذي جاء ذكره من قبل، والذي قال في مقدمة شرحه لديوان أبي الطيب: «أما بعد، فإني لما اقتنيت الديوان، الذي انتشر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط، بالموصل وبالديار المصرية، ورأيت الناس قد أكثروا من شرح الديوان واهتموا بمعانيه، فأعربوا فيه بكل فن وأغربوا، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الاعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه الى غير ما كان قصد اليه. وما فيهم من أتى فيه بشيء شاف، ولا يعوض هو للطالب كاف». ويعقب الطيب بأن العكبري قام «بعمل نبيل ونهض بعبء عظيم ثقيل».

يعتقد الطيب صالح أنه لولا العكبري وأمثاله، لتمزقت اللغة أشلاء وتاهت. وهو في اعتقادي لا يعني اللغة العربية عامة وانما اللغة التي يستخدمها المتنبي. ونسخة ديوان المتنبي الذي بين يديه، طبعها مصطفى البابي الحلبي بمصر المعمورة عام 1936 ميلادية. وقد ضبطها وصححها ووضع فهارسها الأساتذة الأجلاء مصطفى السقا وابراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي. ولا يدري الطيب صالح لماذا لم تعد طباعتها بعد ذلك، حسب علمه. وهو شاكر لصديقه حازم هاشم، الذي أعانه في الحصول على هذه الطبعة النادرة. ويؤكد الطيب أن ذلك الديوان، رغم غلاء سعره، يحمل في جوفه وبين دفتيه كنوزا لا تقدر بثمن.

*** لقد اعجب الطيب من بين كل الشروح للمتنبي بشرح أبي العلاء المعري، لأنه كان يشرح عن حب، ولأنه ذهب مذهباً بعيداً في تحزبه. يقول الطيب انه يطربه الأديب العبقري ويتحزب للأديب العبقري، «وعلى هذا البعد من الزمان، ما أجمل ما يبدو لنا تحزب أبي العلاء المعري لأبي الطيب المتنبي، وما أسخف ما تبدو لنا غيرة الشريف الرضي». ومما أراح الطيب صالح أن أبا العلاء، ذهب مذهباً بعيداً في تحزبه للمتنبي، حتى أنه سمى شرحه لديوان أبي الطيب (معجز أحمد). وقد بحث الطيب صالح في القاهرة عن هذا الكتاب، الذي قيل ان الهيئة المصرية العامة للكتاب اعادت طبعه، عاد ليتذكر صداقاته وعلاقاته في القاهرة، الذين يعتمد عليهم في كل شيء، ليعينوه على العثور عليه، «أولئك اخوان صدق، يجملون في عيني مدينة القاهرة الجميلة. منهم حازم هاشم، وأبو سميح، رجاء النقاش، الناقد الصادق والصحافي السابق. ومنهم أبو شرف، محمود سالم، أخو الأريحيات وحاوي علوم الموسوعات، ومنهم أبو عائشة، عبد المنعم سليم، الذي خدم اللغة العربية بتراجمه من اللغات الاجنبية، ومنهم أبو أحمد، صلاح أحمد محمد صالح، السفير اللبيب والأديب، رفيق صبوات الشباب في لندن ذات الثلج والضباب. وأحياناً يصادفنا مع محبيه في سويسرا، عبد الرحيم الرفاعي، صديق السراء والضراء، وجماعة آخرون، وكلهم محب للأدب، عاشق للغة العرب».

في الطريق لزيارة الطيب لقبر صديقه المتنبي، زار قبر أبي العلاء بمعرة النعمان، ومنها الى حلب مدينة المتنبي، متمثلاً برثاء أبي الطيب، لمحمد بن اسحق التنوخي:

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثري أن الكواكب في التراب تغور مستعيراً المعنى، تحية ورثاء للمتنبي نفسه. والطيب يعادي أي شخص وقف موقفاً من المتنبي لم يرضه. تحدث عن كبرياء المتنبي واعتبر من كبوات الشريف الرضي، التي تكاد لا تغتفر، أنه لم يعترف بعبقرية «بكر الزمان وفلتة الدهور» أبي الطيب المتنبي. والذي كما يزعم استاذه محمود محمد شاكر وآخرون، أنه من العلويين الأشراف، وذلك عند الطيب صالح هو الأرجح.

وافتتان الطيب بالمتنبي، أو (الأستاذ) كما يحلو له أن يسميه، عجيب ومتأصل. فهو في المجالس وبين الأوراق، التي يتبارون فيها، داخل مضمار (الأستاذ)، «يروق بعد كدر ويتهلل بعد ضجر، ويتحرك بعد ركود». هؤلاء في نظره «قناصون لشوارد المعاني، غواصون على اللؤلؤ في الأعماق. جافوا المضاجع، وفارقوا الدنيا بزخرفها، وانقطعوا للعلم». لذلك وصل عصر الطيب صالح هذا الإرث العظيم من فقه وحديث ولغة وسير. لكن عصر الطيب، كما يؤكد لا يستطيع أن يلم بكل شيء، فهم كالطائر يحسو بمنقاره في البحر، أو كحصاة في سفح الجبل. يعجب الطيب في المتنبي، تحلله من قيود المكان، وسجن الدعة ورغد العيش. المتنبي تحرك سواكن الرحيل عبقريته، «وتجيش قريحته الجبارة»، فيشعر بلا تكلف.

المتنبي عند الطيب، هو الاستاذ الذي عهده من قديم، لا أحد قبله ولا أحد بعده، هو صاحب الشعر الحق. وهو كعهده أبداً، كما يصفه الطيب، قادم ذاهب، حاضر غائب، مقيم مفارق. استمع اليه يصف حال الإبل التي حملته الى ابن العميد:

كفانا الربيع العيش من بركاته فجاءته لم تسمع صداء سوى الرعد اذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت في اناء من الورد كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده فلم يخلنا جو هبطناه من رفد لنا مذهب العبّاد في ترك غيره واتيانه نبغي الرغائب بالزهد ونعود لنقول مع اختلاف الشراح لأشعار المتنبي، ولهذه الأبيات بالذات، تزداد فتنة الطيب بشعر المتنبي، البحر الذي يسع كل هذه المنظورات والفكر. ويساعد في كل ذلك رامياً بدلوه مع بقية الدلاء، متخيلاً ما يظن أن المتنبي قصده، «وأقول، غفر الله لي، أن شيخنا العروضي قد أصاب، وشيخنا ابن جني والواحدي ذهبا مذهباً عجيباً» ذلك بعدما اطلع على شروحهم، فانبرى يدافع عن صديقه (الأستاذ). يقول الطيب: «وعندي أن المتنبي لو أراد هذا المعنى الذي ذهب اليه ابن جني والواحدي على طرافته، لنحا نحواً آخر». ويتساءل عن الذي انتقده، كيف تستحي الإبل من الماء يعرض نفسه عليها؟ وأين موضع الحياء في هذه القصيدة المتينة. لذلك مال مع العروضي، دفاعاً عما عناه المتنبي، وقال ان البيت، يجب أن يكون:

اذا ما استجبن لماء يعرض نفسه كرعن بشيب في اناء من الورد يقول، ترى ظلال الإبل منعكسة على صفحة الماء، تصبح الصورة «بديعة لا حدود لجمالها في الخيال، مثل مزهرية صينية نادرة»، أو كرسم مرهف صنعه اليابانيون القدامى على الحرير. هكذا يرى صدق المتنبي في شرح وتفسير العروضي. يقول الطيب ان القدماء وكثيراً من المعاصرين، تحاملوا على كافور واستكثروا عليه ان يمدحه المتنبي. الا أن كافوراً لم يذنب في حق الشاعر، كما يرى الطيب. لقد أحسن استقباله، وخصص له داراً على ضفة النيل، وخدما وحاشية ومالا. ويتساءل الطيب صالح، عن أي أمير في زماننا يصنع مع شاعر مثل ذلك الصنيع؟ ويتذكر صديقه محمد المهدي المجذوب، «شاعر السودان الفحل، وأحد فطاحل شعراء العربية في هذا العصر»، الذي قضى نحبه وهو مراقب للحسابات، استكثروا عليه حتى وظيفة ملحق في سفارة.

لكن الأمانة اقتضت أن يعترف الطيب صالح بأن صديقه المتنبي أنكر الجميل في ما بعد. وهذا يعني، والرأي هنا ليس للطيب، ان الذين تحاملوا على كافور، قد صدق حدسهم، بأن ما صنعه مع المتنبي كان قصير الأجل، وأن المتنبي لم يكن أساسا مقتنعا به. لأن المتنبي هجا بعد ذلك كافورا:

جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود وقد ظهر في بعض المطبوعات، يطعمني بدلا من يمسكني، وأظنها الأصح. أمر آخر لام فيه الطيب صديقه، لافتا نظره الى أن منطق السلطة غير منطق الشعر، وأنه قد تجرأ وأراد أن يعبر الحاجز ليجلس مع صاحب السلطان في موقع واحد. في نظر الطيب صالح هذا لا يجوز، رغم حبه للمتنبي. اللهم الا أن يكون الشاعر نفسه هو صاحب السلطان، وهو أمر نادر الحدوث. ورغم اقتناع الطيب بعزة نفس المتنبي وتعاليه، الا أنه شكر كافوراً. فماذا يجدي المتنبي أن يكون محافظا أو واليا أو حاكما على مقاطعة؟

رغم مدح المتنبي لكافور، ورغم أن البعض ظن ذلك المدح أجود من شعره في آخرين، الا أن المؤكد والذي يؤيده الطيب صالح، أن المتنبي كان يكتب الشعر للناس، لا للممدوح. كان يشعر لجماعات الفضلاء والأدباء والشعراء ولأجلهم. بالنسبة له الممدوح يجيء في المرتبة الثانية. لذلك لم يكن بعض المفسرين دقيقين في شروحهم. والطيب صالح يصر على مذهبه عن النقد الصادر عن حب. يقول ان الدكتور عميد الأدب العربي أحب أبا العلاء المعري، وأقبل على دراسته بمحبة، فانحاز الى صفه تماما، والتمس له الأعذار في مواطن الشك. والحق يقال، يواصل الطيب، جاء كتابه عن أبي العلاء، كتابا بديعا، مترعا حكمة وفطنة. استشهد الطيب بما جاء في مقدمة كتاب طه حسين، من أنه لا يستبيح لنفسه أن يحمد الاشخاص أو يذمهم بحسن ما ينسب اليهم من الآثار أو قبحه، وأن الذم والحمد ليسا من عمل المؤرخ. ان ذلك في نظر طه حسين من عمل الرجل الذي قصر حياته في صناعة المدح والهجاء، ومذهبه في التاريخ يمنعه من ذلك، ويحرمه عليه. وهنا يغضب الطيب صالح ويهب لنصرة صديقه المتنبي. يقول ان الدكتور كتب هذا الكلام عام 1914، ولكنه حين جلس يكتب عن المتنبي عام 1936، نسي ما قاله بالأمس، أو أغفله متعمدا. اذ أنه قال في كتابه عن المتنبي، مقارنا بينه وبين أبي العلاء، في فقرة عجيبة، تكشف عن طوية نفس العميد في تلك الأيام، أكثر مما تخبرنا عن المتنبي. يقول الدكتور طه حسين «وقد جاء بعد المتنبي رجل آخر، رفع نفسه عن الدنيا وعن شهواتها ولذاتها ومنافعها العاجلة، واحتقر الناس وازدراهم، وأنكر الملوك والأمراء، وزهد في التقرب منهم، وأراد لنفسه أن تكون نفس الرجل الحر الكريم، ولعقله أن يكون عقل الرجل الحكيم الفيلسوف، فوفى لنفسه وعقله بكل ما أراد. لم يكن أقل شاعرية من المتنبي، ولم تسعده الأيام كما أسعدت المتنبي، فقد حرمته بصره، ولم تتح له من الغنى والثروة ما يكفل له لين الحياة وخفض العيش. ومع ذلك فقد عاش كريماً ومات كريماً».

يواصل عميد الأدب في مدحه لأبي العلاء، بأنه لم يتملق أحداً، ولم يهف، وأنه سخر من الزمان ولم يسخر منه الزمان، وأنه قد استطال على السلطان وعجز السلطان ان يستطيل عليه. حرص على حريته، لأنه رفع نفسه فوق الأمن والخوف. لقد أعجب الطيب صالح بابداع وانصاف طه حسين لأبي العلاء في هذه التحفة الفنية، من التحف التي تعودها منه، وأيده في كل ما قال. لكنه عتب عليه لأنه لم يشارك الطيب ولا معجبي المتنبي اعجابهم به. ليس ذلك فقط، بل جاء في حديث الدكتور طه حسين، أن المتنبي قد ظن بنفسه غير ما كانت عليه. ويوضح أن الناس كثيراً ما يخدعون بأنفسهم. والغريب في نظره أن المتنبي لم يخدع نفسه وحدها، وإنما خدع معها كثيراً جداً من الناس، «فظنوا به الفلسفة وليس هو من الفلسفة في شيء، وظنوا به الحرية والكرامة وإباء الضيم، وليس هو من هذا كله في شيء، وانما هو رجل من أهل زمانه لم يمتز عنهم بأخلاقه، وانما امتاز عنهم بلسانه، كما كان يمتاز غيره من الكتاب والشعراء».

وفي رد غاضب على كل ذلك، يعتقد الطيب أن مراكب البغضاء قد أبحرت بالدكتور العميد بعيداً عن سواحل الانصاف. كيف يدعي ان المتنبي لا يمتاز عن أهل زمانه من الكتاب والشعراء؟ وهل أبو العلاء المعري لا يقل شاعرية عن أبي الطيب؟ في نظر الطيب أن أول من ينكر على طه حسين هذا القول هو أبو العلاء نفسه. يدافع الطيب، «أي الأمرين أجدر بالمفكر والأديب والشاعر؟ أن يلقي بنفسه في غمار الحياة بخيرها وشرها، وعسلها وصابها، وهديها وأباطيلها، ونبلها وخستها، كما فعل أبو الطيب، وكما فعل الدكتور العميد نفسه، ثم يخرج من كل هذا بمعان سامية تضيء في دياجير العصور؟ هل هذا أم يجنح الى السلامة ويلوذ بصخرة تعصمه من الغرق كما فعل أبو العلاء؟ والمتنبي مات آخر الأمر، كما يحب بعض الناس أن يموت الشاعر، قتيلاً على مذبح القوافي، اذ مات أبو العلاء على فراشه في المعرة. لذلك نحن نعرف أين ثوي أبو العلاء، لكننا لا نعرف مثوى أبي الطيب غير هذا الشعر الفريد. ويا له من شاعر تناثر أشلاء في حنايا القصائد، وحملته القوافي في حواصلها، كحواصل الطير، من زمان الى زمان، ومن مكان الى مكان».

ويسأل الطيب صالح الدكتور العميد، كم من المفكرين والفنانين والشعراء، في تراث العرب وفي تراث غيرهم من الأمم، ارتفعت حياة الواحد منهم، الى مستوى المثل العليا، التي عبر عنها في فكره أو في فنه؟ وضرب أمثلة من هؤلاء، متسائلاً لماذا لم يقل عنهم العميد ما قاله عن المتنبي في أحكامه، رغم تشابه الظروف والمصير، منهم أبو تمام وأبو نواس والأديب الفرنسي (بودلير) والرسام النابغة (جاك لوي ديفيد). يقول الطيب، كان على الدكتور طه حسين أن يتذكر منزلة أبي الطيب عند صفيه أبي العلاء، الذي دافع عنه في (رسالة الغفران).

*** يتساءل الطيب صالح مرة أخرى، عن سبب بغض الدكتور طه حسين للمتنبي. لقد كتب عن أبي العلاء قبل أن يكتب عن أبي الطيب، وربما أحبه لما بينهما من أوجه شبه. لذلك تعرض في كتاباته عن ضرورة الاشفاق عليه والاعجاب به. من هموم طه حسين أن يعيش مع صفيه أبي العلاء في سجنه الذي اتخذه لنفسه، ليرى كيف يعيش فيه، ليس فقط عيشته المادية، بل عيشته العقلية الشاعرة المفكرة. هكذا يرى الطيب صالح الصلة بين عميد الأدب وأبي العلاء المعري. وأضاف أن الاشفاق عنصر مهم في هذه المحبة. واستشهد بـ(رسالة الغفران) لأبي العلاء و(مع المتنبي) لطه حسين حيث ظهرت الاشارة للربط الحقيقي، اذ أن كليهما (مستطيع بغيره). اذن كما يتساءل الطيب مرة أخرى، لماذا لم يجد الدكتور العميد عند أبي الطيب شيئا يدعو الى الاشفاق؟

رغم اختلاف المعنى، يستطرد الطيب صالح، أن المتنبي أيضا كان جديرا بالشفقة والعطف والرثاء. خاصة أن الدكتور طه حسين يعترف بأن أبا العلاء كان مقلدا لأبي الطيب مفتونا به، رغم الفرق الكبير بين الرجلين، عمليا وعقليا. ثم يعود ليقول ان المتنبي كان عبدا لشهواته، لكن ليست شهوات اللذة والفسوق ونعيم الحياة. بل هي شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. واحتمل في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق، من بؤس وسؤال. باع شعره في كساد، ومدح من كان يحتقرهم، وتملق من كان يزدريهم، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء. وما زال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخلقي حتى تلقاه الموت في الصحراء. يقرر الطيب صالح أن هذا الكره من الدكتور العميد لأبي الطيب، أساسه أنه رأى فيه جوانب من نفسه وأنه افتقد فيه جوانب ظن أنها عنده، وأنه كرهه لكل الأسباب التي أحب من أجلها أبا العلاء المعري.

وفي موجة من موجات الدفاع عن المتنبي، ينبري الطيب صالح ليقول «كان أبو العلاء ضريرا، اذ كان أبو الطيب حديد البصر، وكان أبو العلاء قعيد داره اذ كان أبو الطيب جواب آفاق، وكان أبو العلاء يعيش على العدس والتين، اذ كان ابو الطيب في بحبوحة، وكان أبو العلاء هينا متواضعا اذ كان أبو الطيب شرسا، وكان صوت أبي العلاء في شعره هادئا رقيقا مثل سجع الحمام، اذ كان صوت أبي الطيب صاخبا مجلجلا مثل كتيبة صغيرة». ولا يقف الطيب عند حد الدفاع، بل يهاجم، «غفر الله للعميد لئن كان المتنبي، كما زعم، قد ظن بنفسه غير ما كانت عليه، فإن الأيام سوف تكشف له، أنه هو أيضا تاه عن حقيقة نفسه، كما طوحت به أمواجها بعد ذلك التاريخ، عام 1914، حين كتب ما كتب. سوف يغرق وشيكا في بحر الدنيا بخيرها وشرها. سوف يتراجع عن آرائه التي أهاجت عليه الناس. سوف يمالي الجمهور بكتابه (على هامش السيرة) وكتابه (الوعد الحق). سوف يدخل معترك السياسة فيمدح ويذم، ويجادل ويخاصم. سوف يصبح عميدا ورئيسا في الجامعة، وسوف يصير وزيرا في الحكومة، سوف يقبل رتبة الباشوية من الملك، ثم حين تقوم الثورة على الملك، سوف ينحاز اليها، ويكون هو الذي يسميها ثورة».

يجب أن اعترف هنا، بأني لم أشهد من قبل مثل هذا الحماس في مكتوب أدبي، ولم أحس مثل هذا الصدق والحرارة، في نجدة صديق، مهما كانت مكانة الشخص الذي وجه له الكلام. يقول الطيب صالح متماديا في حماسة، موجها السؤال للدكتور العميد «أما رأيت حنين المعري الى عالم اللذة والحس» حين قال:

أين امرؤ القيس والعذارى اذا مال من تحته الغبيط له كميتان ذات كأس تربد والسائح الربيط ويؤكد أن المعري يومئ هنا، الى أبيات لامرئ القيس، هي من أكثر الشعر العربي اقبالا على المتعة واحتفاء باللذة:

تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل أو:

كأني لم أركب جوادا بلذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال يواجه الطيب صالح الدكتور العميد، مرة أخرى، كيف أبو العلاء والمجد؟ هل حقا أنه عافه؟ لماذا لم يصمت اذن؟ لماذا ألف الكتب ونظم الشعر؟ أليس ذلك من أجل أن يذيع صيته ويشتهر؟ المعري، في نظر الطيب، لم يكن زاهدا، ولم يدفن نفسه في أرض النسيان «ما هكذا فعل أبو العلاء، لقد مكث يغالب الدنيا وتغالبه، وكذلك حال أبي الطيب، الا أنه كان يكتفي بالبيت والبيتين، اذ كان يلزم أبا العلاء، العشرة والمائة. وكذلك كان العميد». يؤكد الطيب، أن الأمر بجانبيه ارث جليل، وهو الأهم، وهو الذي يعنينا.

ان تحامل الدكتور طه على المتنبي وبغضه له، عادي في نظر الطيب، لأن الناس أحرار في أن يحبوا ويكرهوا. لكن ما يؤلمه، كيف يكون الكره بهذه الحدة لرجل توفاه الله منذ أكثر من ألف عام، رغم أن أحداث حياته ما زالت موضع خلاف، وما زالت تحتاج للمزيد من البحث والتدقيق؟ ان تفرد ونبوغ وعبقرية أبي الطيب، في نظره، لا تحتاج إلى برهان شاعر قال القدماء عنه إنه «قد ملأ الدنيا وشغل الناس»، وجاء منذ أكثر من ألف عام بأقوال لم تزل جديدة وطريفة الى يومنا هذا، حتى لكأنه شاعر من زماننا وعصرنا. وفوق ذلك استشهد بما قاله ابن الأثير، من أنه خاتم الشعراء، وأنه فوق الوصف وفوق الاطراء. يقول ذلك رغم إنه لم يكن مشغوفاً بحبه. الناس أعجبهم المتنبي لدرجة أن بعضهم قال إنه نابغة في جيده ورديئه.

الطيب صالح، لمعرفته بالدكتور طه حسين كعالم جليل يعتد برأيه ويحسب حسابه، اندهش واستغرب أن يكتب بقلة اكتراث تقرب من الاستهتار عن شاعر يحتل في تراث العرب مكانة مثل ما لشكسبير عند الانجليز وفكتور هوغو عند الفرنسيين. هل كتابه عن النيل هفوة من هفواته، أم سقطة من سقطاته؟ لم يشفع له عند الطيب، اعتذاره في نهاية الكتاب، الذي يعتبره امعانا في «البلبلة والسخرية». ان البلبلة التي وصف بها الطيب الاعتذار، اعتقد أنها ظاهرة في هذا الجزء: «واذاً فما أعرضه عليك في هذا الكتاب ليس حياة المتنبي، كما كانت، ولا هو حياة المتنبي كما اعتقد انها كانت، وانما هو حياة المتنبي، استغفر الله، بل لحظات من حياة المتنبي كما تصورتها اثناء شهر ونصف شهر من الصيف الماضي». ويمضي العميد ليقول، رأيه عن المتنبي قبل الاملاء، عدل عنه اثناء الاملاء. ولم يعد بأن هذا الرأي سيظل ثابتاً في المستقبل، لأنه عبد اللحظة التي تهيئ المزاج للفهم والحكم والتأثر والتأثير.

يعتبر الطيب صالح، أن ما قاله العميد في نهاية الكتاب، أراد أن يغلق به المشارع كلها، من حيث قد يجيئه الهجوم. لكن وببساطة يعتبر كل الناس، أن هذا الكتاب يعبر عن رأيه في حياة أبي الطيب وفي شعره. لذلك لم يجد الطيب صالح حرجاً، في محاورته ومناظرته حوله، وحول ما جاء فيه.

لنترك الآن دفاع الطيب صالح عن المتنبي، وقسوة عميد الأدب العربي عليه، لنخلص الى أمر مهم آخر. لماذا يحتد الدكتور طه حسين عندما يتحدث عن أبي الطيب؟ هل لأنه أساء الى مصر والمصريين؟ أم أن غضبه بسبب أنه أصبح من قيادات الشعب المصري، والطبقة الحاكمة، لذلك أحس بضرورة الدفاع عنهم، لأنه أصبح منهم؟ هذا الرأي لم أسمعه أو اقرأه من قبل وربما فكر فيه أو قاله شخص، اذ ان اطلاعي في هذا الجانب ليس كافياً. لكن المهم عندي أن الكلمات الجارحة التي وجهها شعراً أبو الطيب المتنبي، وسأورد بعضها، ليست موجهة للشعب المصري، بل للأجيال من الأجانب الذين حكموا واستنزفوا مصر لأزمنة طويلة. والمتنبي معروف بتعاليه على الكبار وليس على العامة. والمقصود البطانة الفاسدة وأتباع الحكم الأجنبي، وليس سواد الشعب المصري:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد أو: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم أو:

حصلت بأرض مصر على عبيد كأن الحر بينهم يتيم أو: وما بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء أو:

جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود واضح هنا أن المقصود ليس الشعب المصري ولا مصر، التي يردد أطفالها وأطفال وادي النيل على طوله كل صباح: (مصر العزيزة لي وطن وهي الحمى وهي السكن).

لكن ما جعل هذه الأبيات تشتهر وتطغى على أي تفسير معقول، أنها للمتنبي، الذي كل بيت من أشعاره عرف (بالبيت السيار)، وهو الذي يبرز تمكن الشاعر، ويسير مسار الحكمة. في بعض أشعاره تحدث عن غفلة الحكام، مع تأكيده بأن خيرات مصر كثيرة وأنها لن تفنى، مهما كان عبث الغاصبين. العهد الذي تحدث عنه المتنبي ليس عهد طه حسين، عندما عمت النهضة أرض مصر، وقادت العالم العربي، بلادا وشعوبا. وشعب بهذه المقدرة لا يمكن أن يكون مدعاة لسخط المتنبي. لكن المقصود المجموعة المتحكمة.

ربما جاء غضب طه حسين على المتنبي، لأنه في نظره أساء لمصر. هنالك عرب أساءوا لبلادهم، ومصريون أساءوا لمصر، وسودانيون أساءوا للسودان. تلك لحظات ضعف انساني تعالج بالصبر والعقل وليس برد الاساءة. مصر صبرت على عهود وعصور من الاستعمار والاستغلال، حتى حكمها أبناؤها. فلا يضيرها حديث يحتمل معنيين. مصر مع ريادتها، لعبت دورها في نشر الوعي الثقافي والسياسي، لذلك ظلت مركز الثقل في العالم العربي.

وفي عودة الى عميد الأدب، اعتقد أنه لو كان عائشا اليوم، لزادت هذه المساجلات امتاعا، لنفع القراء، بين ما كتبه الدكتور طه وما ناقشه الطيب صالح. وما قاله الطيب في الحقيقة هو قراءة ثانية في مضامين أشعار المتنبي، وفي ما رآه طه حسين. ولصعوبة ما قاله وما رآه، التقط الطيب صالح القفاز وتصدى للرد. واذا كان الطيب يستسخف غيرة الشريف الرضي، فكيف يتحمل هجوم عميد الأدب، على صديقه (الأستاذ)؟ عندما تحدث الطيب صالح في قاعة المركز الاعلامي السعودي مساء الثلاثاء 1992/10/27عن المتنبي في محاضرة عامة، ولما عرف عن افتتانه بأشعار المتنبي، عرف ذلك اليوم، بيوم المتنبي في العاصمة البريطانية. مهد لتلك المحاضرة صديقه عثمان العمير، وقدم لها الشاعر الدكتور غازي القصيبي.

أطلق الناس في الأوساط الثقافية على تلك الأمسية (أم الأمسيات)، لأن المتحدث مؤلف (موسم الهجرة الى الشمال)، وموضوعها شاعر العربية الأول. هكذا تحدثت صحف لندن. وقتها قرر كثير من المعلقين، بأن معرفة الطيب صالح بشعر المتنبي وخصوصياته، توازي ما يعرفه أفضل شراح ذلك الشاعر، الذي تعددت شروح ديوانه، كما وضح أنه قرأ معظم ما كتب عنه. قيل أنه ناقش بتمكن آراء محمد محمود شاكر وعبد الله الطيب وطه حسين. كذلك ظهرت نفس الاشكالية، في أن طه حسين معجب بأبي العلاء المعري، والمعري من المعجبين بأبي الطيب المتنبي، ومع ذلك لم يستطع طه حسين أن يكتم كرهه للمتنبي. وقد أكد الطيب في تلك المحاضرة أشياء مهمة، منها مخالفته للآراء القائلة أن المتنبي لم يمدح كافوراً حقيقة وانما كان يسخر منه، ومنها أن المتنبي كان مشغولا بنفسه، ومنها أن باله كان دائما على فنه الشعري وخياله وطموحاته، ومنها أن الممدوح فقط وسيلة وأداة للدخول الى الشعر.

مرة أخرى يؤكد الطيب أن طه حسين يخطئ في فهم عبقرية المتنبي، تحت تأثير مذاهب نقدية أخرى، لكنه لم يقلل من آرائه المهمة في شعر أدباء آخرين. من التعليقات أيضا، أن الطيب كان متمكنا من موضوعه، ومن المامه حتى بروح المتنبي الثائرة الطموحة التي جعلته يضع نفسه فوق الناس، لأنه يختلف عنهم، ويتطلع الى أشياء لا يحلمون بها:

(أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن).

أهم ما في تلك الندوة ، كما تردد، أن القصيبي أذاع سرا نقديا لأول مرة، وهو أن هنالك تأثيراً لشعر المتنبي على رواية (موسم الهجرة الى الشمال). قال إن الطيب أسر اليه، بأن النقاد وجدوا في روايته لمحات وبصمات لكتّاب ومفكرين من كل حضارة، لكن فاتهم أن يجدوا الأثر الواضح للمتنبي فيها. وهو اعتراف، في نظر كثيرين، سيفتح الباب أمام دراسات نقدية جديدة. كما اقترح القصيبي أن تتحول مقالات الطيب صالح عن المتنبي، الى كتاب كامل عنه. أيد ذلك كثيرون، لأنهم يعتقدون، أن الطيب عندما يكتب عن المتنبي، يجعلهم يرون المتنبي من زاوية جديدة، رغم أنهم قرأوه وحفظوه.

وفي النهاية الطيب ليس متجنيا على عميد الأدب العربي، وهو ليس وحده في هذه المعركة. هنالك، على سبيل المثال، الدكتور محمد حسن رمضان من القاهرة يقول «ذلك الرأي البغيض لعميد الأدب العربي طه حسين في المتنبي، رأي لا يتصور المرء أن يأتي من طه حسين، مع سعة علمه ومعرفته».

* أستاذ في جامعة الخرطوم