عن «الكيمياء السياسية» بين لحود والحريري!

TT

تدرّجت «المعركة» من «الانتخابات النيابية» إلى «رئاسة الحكومة» إلى «أسلوب الحكم» .. لكن التعاون الوطني يبدو قدرا تفرضه مصلحة لبنان حسابات الزرع الانتخابي في لبنان لم تطابق حسابات البيادر في المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية التي جرت يوم الأحد الماضي، وكل المؤشرات والوقائع تؤكد تقريباً، ان حصاد المرحلة الثانية من العملية التي تجري اليوم في بيروت والجنوب والبقاع لن يكون في مجمله مغايراً للمفاجآت التي حصلت في الأسبوع الماضي، وخصوصاً في العاصمة بيروت.

كانت النتائج صاعقة في الدورة الأولى وخصوصاً في الشوف وعاليه والشمال، حيث خرجت المعارضة بانتصار كاسح قد يشكل مع اكتمال عقد العملية الانتخابية انعطافاً سياسياً في الوضع اللبناني يقرب من مفهوم «الثورة البيضاء» في وجه الدولة وأسلوب الحكم.

والآن وقبل ظهور النتائج الأخيرة في خلال الـ 48 ساعة المقبلة، يمكن القول إن التساؤلات القوية والشكوك التي أحاطت بالعملية الانتخابية برمتها منذ انطلاقها عملياً قبل ثلاثة أشهر، حيث ارتفعت عقيرة الاتهامات من تدخلات الدولة وأجهزتها وضغوطها وانحيازها الإعلامي وتصرفها كفريق يشن حرباً شعواء ضد المعارضة ورفيق الحريري تحديداً لمنعه من العودة إلى رئاسة الحكومة، هذه التساؤلات انتقلت لتطرح بقوة في إطار الاحتمالات المحيطة بمستقبل العلاقة بين عهد اميل لحود من جهة وجبهة المعارضة المتسعة والخارجة بانتصار كبير من الانتخابات التي هي استفتاء عام في النهاية أعطى المعارضين زخماً كبيراً.

لا حاجة هنا إلى استعجال الأجوبة فالنتائج النهائية لن تتوافر قبل يوم الأربعاء المقبل تقريباً واتجاهات التحالفات تحتاج هي أيضاً إلى أسبوع على الأقل، رغم مسارعة وليد جنبلاط وسليمان فرنجيه ونسيب لحود إلى ترشيح رفيق الحريري لرئاسة الحكومة، في وقت كان هذا الأخير يقف إلى جانب نبيه بري في مهرجان انتخابي أقيم في مجدليون حيث أعلنا تحالفهما الانتخابي على الأقل! لكن من نهاية الأسبوع الماضي إلى نهاية هذا الأسبوع طرحت في ضوء نتائج الانتخابات أسئلة كثيرة أهمها:

أولاً: ماذا تعلمت الدولة من نتائج المرحلة الأولى وقد جاءت صاعقة، وخصوصاً أنها متَّهمة بالتدخل السافر والانحياز والحقن وشن حملات التشويه والقدح والذم، وهل تشكل النتائج تنبيهاً لها بأن ممارساتها المنحازة وأسلوبها السيئ في التحامل والتجني هما اللذان خلقا ردة فعل غاضبة عند الناس فمنحوا أصواتهم بحماسة لخصومها من المعارضين؟

ثانياً: هل تكون نتائج الدورة الأولى وخصوصاً في منطقتي الشوف وعاليه حيث خرج وليد جنبلاط بانتصار كاسح، حافزاً يضبط إيقاع الدولة وانضباط تعاطيها مع الدورة الثانية بما يتلاءم مع الحد الأدنى من مستلزمات الحياد المفترض والنزاهة الضرورية، وهو ما قد يخفف من انتفاض الناس في وجه تدخلاتها؟

أم أن الدولة ستحاول أن «ترد الرِجل» على انتصار المعارضة في الدورة الأولى، بزيادة تدخلاتها في الدورة الثانية، بحيث تسعى إلى الحد من اتساع رقعة انتصار المعارضين؟

ثالثاً: بهدف بذل محاولة أخيرة مستميتة لقطع الطريق على وصول كتلة نيابية معارضة واسعة إلى البرلمان، هل ترد الدولة على انتصار جنبلاط في الجبل وفرنجيه في الشمال، بالسعي إلى إلحاق هزيمة بلوائح رفيق الحريري في بيروت؟ وهل هناك إمكانية عملانية وإجرائية لمثل هذا السعي بعدما اتُّخذ كل ما يمكن اتخاذه في هذا السبيل من القانون الانتخابي إلى تشكيل اللوائح وبذل الضغوط وشن الحملات الإعلامية التشويهية التي لم تتوقف إلاّ بعد تدخّل «الاطفائية السورية»؟

رابعاً: ماذا تعلّم الناس من الدورة الأولى للانتخابات وإلى أيّ مدى ستصل حماسة البيارتة ـ أهل بيروت ـ لتكرار ما حصل في الشوف (والأمر هنا يذكّر تقريباً باكتساح «الحلف الثلاثي» ـ كميل شمعون ـ بيار الجميل ـ ريمون اده ـ للانتخابات في وجه الدولة وتدخلات «المكتب الثاني» العسكري عام 1968). وهل ان رد المقترعين على التدخلات والضغوط سيكون في العاصمة كما كان في الشوف وعاليه، وخصوصاً ان هناك معالم حماسة قوية لمثل هذا، وقد انتقل جنبلاط من الجبل إلى العاصمة ليواكب المعركة الانتخابية من قرب؟

خامساً: إذا تدخلت السلطة لتحوير النتائج في بيروت وهو أمر افتراضي صعب وربما مستحيل، نكون بالفعل أمام فضيحة مشهودة قد تؤدي إلى أزمة وطنية كبيرة.. اما إذا تكرر الانتصار الساحق للمعارضة فيصبح السؤال: كيف يمكن، أو هل يمكن تثمير العملية الانتخابية (وهي الأولى نوعياً وسياسياً رغم التدخلات والضغوط منذ عام 1972) في مجال حَفزْ الحياة السياسية المنهارة تقريباً، وخلق منطلق جديد للتعاون الوطني، الذي يبدو اللقاء بين وليد جنبلاط وأمين الجميل و«بيان المصالحة» الذي وقّعا عليه في المختارة من أساسياته الحيوية والضرورية والتاريخية؟

سادساً: كيف يمكن بالتالي تحضير «الكيمياء السياسية» بين اميل لحود ورفيق الحريري وتفعيلها لخلق تعاون فعال يخدم المرحلة الجديدة، إذا انتهت الاستشارات النيابية الملزمة التي سيجريها رئيس الجمهورية بعد الانتخابات، بتسمية الحريري رئيساً للحكومة، وخصوصاً ان بعض أهل الدولة وأجهزتها ذهب بعيداً في محاربته كما كان يحصل في تلفزيون لبنان؟

سابعاً: هل يجيد هذا البعض من أهل الدولة، قراءة المعاني الدقيقة والمهمة لكلام الرئيس لحود مساء يوم الأحد الماضي وبعد ظهور النتائج الأولية لانتخابات الدورة الأولى، حيث دعا إلى «جعل المصالحة الوطنية عنواناً واحداً للعملية الانتخابية، ورحب بالجميع وبكل من ستفرزه أقلام الاقتراع فائزاً في الانتخابات ممثلاً لكل لبنان في المجلس النيابي»؟

*** الأسئلة كثيرة، لكن الأجوبة لن تتأخر وخصوصاً أن إقفال صناديق الاقتراع مساء هذا اليوم الأحد، سيفتح المشهد السياسي اللبناني على احتمالات كثيرة، سيحتاج المرء في الأساس إلى التدقيق ملياً في التطورات الدراماتيكية للمعركة الانتخابية لمعرفة عمق هذه الاحتمالات.

والتطورات حصلت تقريباً على مراحل ثلاث في مفهوم العملية الانتخابية، أما الاحتمالات فيمكن أن تحصل بواحد من ثلاثة أشكال.

ماذا عن التطورات؟

* أولاً: كان اللبنانيون منذ سنة تقريباً أمام معركة انتخابية قيل فيها وعلى هامشها كثير من الكلام وارتكب الكثير من الأخطاء على المستوى الرسمي، ابتداء من سن قانون يفتقر إلى العدالة والتوازن وانتهاء بتدخل الأجهزة بشكل سافر الانحياز ضد المعارضة وخصوصاً رفيق الحريري، مروراً بالضغوط لتشكيل اللوائح والأسماء. ولعل من المثير للسخرية أن أسلوب التعاطي الرسمي مع هذا الاستحقاق بدا على ألسن وزارية في منطقة الجبل مثلا، وكأنه حرب «إبادة سياسية» معلنة تشن ضد المعارضين.

* ثانياً: أصبح اللبنانيون منذ شهرين قبل موعد الانتخابات أمام معركة رئاسة الحكومة، التي قيل فيها ايضاً الكثير من الكلام الواقف والمؤذي، وارتكب على هامشها الكثير من الأخطاء السياسية والإعلامية الرسمية، وحصلت في إطارها سلسلة واسعة من التجنيات والقدح والذم والافتراء، وكل ذلك بهدف قطع الطريق على عودة رفيق الحريري على رأس كتلة نيابية تسميه رئيساً للحكومة في الاستشارات الملزمة.

* ثالثاً: بعد إعلان نتائج الانتخابات في الجبل والشمال، استيقظ اللبنانيون ليجدوا أنفسهم أمام معركة العهد مع المعارضة، التي وصل البعض في تصوير انتصارها إلى حد الحديث عن «ثورة بيضاء» ضد أسلوب الحكم، وخصوصاً في ظل دعوة وليد جنبلاط إلى «تغيير كامل لنهج الحكم» وحملته على خطاب القسم الذي قال إنه استهدف إلغاء السياسيين.

وماذا عن الاحتمالات؟

قياساً بالنتائج النهائية المتوقعة للانتخابات بعد اكتمال دورتها الثانية اليوم، حيث ينتظر أن تتشكل كتلة واسعة من النواب المعارضين، وفي ضوء تبكير البعض في تسمية الحريري مرشحاً لرئاسة الحكومة، وفي ضوء ما يتردد من تحليلات عن معارضة لحود الحاسمة وشبه النهائية لعودة الحريري إلى السراي ـ أي إلى الحكومة ـ يمكن المراقب أن ينظر في احتمالات ثلاثة:

* أولاً: أن يواجه لبنان «أزمة دستورية» تنشأ على قاعدة أن يحصل رفيق الحريري على أكثرية نيابية تسميه رئيساً في الاستشارات الملزمة التي سيجريها رئيس الجمهورية، وان لا يتم تكليفه تشكيل حكومة جديدة. (وفي كلام للوزير ميشال المر نشر في جريدة «السفير» يوم الأربعاء الماضي، انه لو جاء الحريري بـ 70 نائباً من أصل 128، فإن ذلك لا يكفي للإتيان به رئيساً للحكومة والكل يعرف كيف يُصنع رئيس الحكومة في لبنان عبر التوافق بين رئيس الجمهورية وسوريا!).

ولكن اميل لحود صارم في احترام الدستور وصونه وهو الوصي على حمايته، ولهذا من المستبعد حصول أزمة دستورية، بمعنى عدم امتثاله لفعل الإلزام في الاستشارات النيابية.

* ثانياً: ان يواجه لبنان «أزمة حكومية» أي أن يتم تكليف الحريري تشكيل الحكومة لينفجر الخلاف بينه وبين لحود على التشكيلة المقترحة فلا يوقِّع الرئيس مرسوم الحكومة، وهو أمر قد يدفع البلاد إلى فراغ لا يريده لحود ولا الحريري وخصوصاً في ضوء تصاعد الأزمة الاقتصادية المعيشية الخانقة.

* ثالثاً: أن يواجه لبنان «أزمة حكم»، أي أن يتم تكليف الحريري تشكيل حكومة ويوقِّع الرئيس مرسومها، في إطار قيام نوع من «زواج المساكنة» بين الرجلين، لكن روح الطلاق ورياحه سرعان ما تواجها أعمال الحكومة فتعطلانها، وهو أمر لن يقبل به الحريري، مما قد يفتح باب الأزمة على بعدٍ وطني لا حكومي فحسب.

*** لكن الصورة بالنسبة إلى الذين يحافظون على مقدار من التفاؤل لا تبدو مقلقة إلى هذا الحد، ففي ظل كلام رئيس الجمهورية عن أن «كل حسابات الربح والخسارة في الانتخابات تسقط عندما يكون الوطن هو الخاسر الأكبر، وان على الجميع تحمل مسؤولياتهم في هذا الإطار»، وفي ظل حرص المعارضين على مد يد التعاون إلى العهد فور إعلان نتائج الدورة الأولى، وفي ظل أرقام وزارة المال المذاعة يوم الأربعاء الماضي، عن أن عجز الموازنة ارتفع بشكل حاد إلى 53.41 في المائة من الانفاق منذ بداية السنة.

.. في ظل كل هذا، يبدو التعاون قدراً محتوماً بين العهد والمعارضة أو.. هكذا يجب أن يكون!