رأيت بغداد في «رأيت بغداد»

TT

تتوج الحفل الافتتاحي لموسم «بغداد عاصمة الثقافة العربية» بالعرض المسرحي الملحمي والموسوعي «رأيت بغداد» الذي تعاون في إعداده وإخراجه وتمثيله كبار من بقي من الفنانين والأدباء العراقيين، وعلى رأسهم الممثل المخضرم سامي عبد الحميد والمخرج قاسم زيدان والمؤلف محمد الغزي.

يروي هذا العرض تاريخ بغداد الحضاري منذ يوم بنائها بأمر الخليفة المنصور وحتى يوم إخراج هذا العرض، مرورا بالازدهار الفكري والأدبي في العصر العباسي فنلتقي بشخصيات ذلك العصر ثم يتزلزل المسرح وتتلبد الشاشة التصويرية الخلفية بالعواصف وتجري جموع الممثلات والممثلين يتراكضون كالمجانين على خشبة المسرح من طرف إلى طرف والموسيقى تعج بنوطات العنف والاضطراب. إنها بغداد في عصر الظلمات بعد سقوطها بيد المغول ثم الفرس ثم العثمانيين. سرعان ما تنجلي السماء ويعود الصفاء للموسيقى ويدخل العراق في عهد الانتداب البريطاني ثم الحكم الملكي. نلتقي بشخصيات العشرينات فالثلاثينات والأربعينات، الرصافي يحاور الزهاوي والزهاوي ينظر في نظرية التطور. «لا ابني لا! أنا ما قلت أنت أبوك كان قرد» يقول لمعترض شعبي. «أنا قلت أنا أبويه كان قرد!».

وتستعيد بغداد حرية الفكر العباسي ثم تدخل عصرها الذهبي في الخمسينات مع الفنانين الكبار؛ جواد سليم وخالد الرحال وفايق حسن ومن ورائهم ينشد الجواهري روائعه ويبعث بتحياته:

حييت سفحك من بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين

وعلى أنغام منولوجات عزيز علي «الراديو يا ما أحلى الراديو»، تنطلق فتيات وفتيان فرقة الرقص التعبيري يرقصون آخر ما استجد من صرعات الرقص الحديث. ويعود المسرح فيدخل في مرحلة جديدة من الاضطراب ويهوي تمثال صدام حسين من عليائه.

قدم العرض تحت خيمة متنزه الزوراء وضم جمهوره نحو ثلاثة آلاف مشاهد من الشريحة المتنورة من سكان بغداد. أعطوني بحضورهم المكثف فكرة عما يدور في ذهن من بقي من النخبة العراقية. كنت أتوقع أن يصفقوا لسقوط صدام حسين. لكنهم لم يفعلوا ذلك. صفق شخص واحد تصفيقتين ثم توقف بعد أن لاحظ أن الآخرين غير عازمين على مشاركته في حماسه. سألت نفسي: هل أصبح العراقيون يترحمون على أيام صدام حسين؟ أجابني أحد الزملاء فقال كلا. إنهم فقط ساخطون على أوضاعهم الحالية، وفي مقدمتها افتقارهم للأمن وضياع حرياتهم التقليدية وسخطهم على شيوع الفساد.

نعم! ساخطون على ضياع حرياتهم الشخصية مما تعود عليه أهل بغداد من أيام أبي نواس لأيام أبو عتيشة وعفيفة إسكندر. فلا عجب أن انطلق الحاضرون بعاصفة من التصفيق عندما انطلقت صبايا فرقة الرقص التعبيري إلى المسرح يرقصن الروك أند رول على أنغام «الراديو يا ما أحلى الراديو!» وكانت كل واحدة منهن تعبر بقدميها عن أمل العراق في الانطلاق مرة أخرى نحو عوالم الحرية وحب الحياة ومواكبة مسيرة التاريخ.