بل إنهم ظاهرة صمتية

TT

يقول الدكتور عبد الله الغذامي، أحد أساتذة النقد العربي المعاصر، إن العرب لا يفكرون، لا قبل القول ولا بعده. ويسوق مثالا على ذلك بأن الملايين رددوا خلال عقود «العرب ظاهرة صوتية»... «دون أن يدركوا أنها مقولة غبية، لأن مشكلة العرب كانت دائما في أنهم ظاهرة خرساء».

أنا أيضا رددتها طويلا بعد عبد الله القصيمي.

ولقد قرأت القصيمي شابا، وتعرفت إليه من خلال ناشر كتبه في بيروت قدري قلعجي، وهو أديب سوري اشتهر بكتابه «تجربة عربي في الحزب الشيوعي». ولم يطل مقام القصيمي في لبنان، الذي أبعده إلى مصر، غير قادر على تحمل الضجيج الذي قام حوله. وهو أمر تكرر بعد عقد عندما أبعد المفكر السوري صادق جلال العظم، مع الاختلاف الواضح في طروحات الرجلين وقضاياهما وخلفياتهما الثقافية.

عاد القصيمي ليمضي سنواته الأخيرة بعد شعور مرير بالعزلة في مصر. وكان واحدا من عدد قليل فضلوا العودة بعد اعتصام طويل في الخارج.

تحول الأدباء والمفكرون إلى جزء من الصراع السياسي، وأفادت من احتضانهم الدول التي لجأوا إليها، ثم قابلتهم بما قابلت به سواهم من قبل: بالنسيان. شهدت مقاهي مصر (وإلى حد ضئيل مقاهي بيروت) صفوفا طويلة وقوافل من السياسيين الذين جاءوا ينتظرون دورهم للوصول إلى السلطة. وفيما أطلقت بيروت العنان للمفكرين والشعراء، إلا في التهمة الإلحادية، ضبطت مصر الناصرية حركة المنفى كما تضبط حركة الوجود في الداخل. الذين عادوا إلى بلدانهم وجدوا غالبا استقبالا وحتى بيتا للإقامة بعد الغياب الطويل.

عاد محمد الماغوط إلى سوريا، ومات بدر شاكر السياب في الكويت، وهو في الطريق إلى العراق، لافظا آهته الأخيرة على ذكرى الفرات فوق سرير حديدي في مستشفى خارج المدينة.

وبعد غياب طويل عاد صادق جلال العظم إلى دمشق لكي يتركها من جديد، من أجل الثورة.

عدت إلى قراءة عبد الله القصيمي بعد سنوات ولم أجد ما يدهش حقا. ولا يزال نقاد سعوديون يتناولون أعماله إلى اليوم، غالبا بعمق وحدة ومرارة. كانوا يتمنون له اعتراضا أكثر إشراقا ومعنى وأقل تكرارا.

خالف الدكتور الغذامي خط الركب، ولكن بعمق منهجي واجتهاد أدبي مقتدر ومقدر. واعتذر عن عدم قبول المناصب الرسمية معللا بأنها لا تلتقي مع العمل الفكري. وإنها مناسبة كي أضيف أن الرجل لم يُعطَ شيئا من حقوقه في العالم العربي.. حتى الآن.