ليالي الجنادرية

TT

تنطوي الجنادرية، كمهرجان ثقافي، على بعدين هامين. أولهما: عقد ثلاث أو أربع ندوات نقاشية يوميا. ثانيا: عقد مناقشات مفتوحة في منزل أو مكتب عبد المحسن التويجري. وكان حسن صبرا يرأس جلسة النقاشات المفتوحة الخاصة العام الماضي.

حسن صحافي وكاتب رائع، وكتابه عن سوريا وأسرة الأسد رائع، وهو ناشط سياسي ومسلم شيعي يعيش في القاهرة حاليا بعيدا عن وطنه الحبيب لبنان. لكن حسن معوض، مدير النقاشات للعام الحالي كان هادئا! في إدارته لمناقشات الليلة الأولى للمهرجان حول الربيع العربي، فيما كان حسن خليل يدير جلسات النقاش في الليالي الأخرى.

وكي أكون منصفا بمعنى الكلمة، أرى أن ليالي الجنادرية لا تقل في أهميتها عن نهارها، لأنك خلال الليل ترى مدى عمق القضايا المصيرية التي تناقش. كانت إيران حاضرة بشكل دائم في النقاش، فقال سعد الدين إبراهيم في الليلة الأولى إن الإمام الخميني خطف الثورة من الشعب الإيراني، مثلما خطف لينين ثورة أكتوبر (تشرين الأول) في روسيا. واقع الأمر أنها كانت الورقة البحثية الخاصة بسعد الدين إبراهيم المقدمة إلى الجلسة، لأنه عاد خلال الحلقة النقاشية ليكرر نظريته للمرة الثانية. وقد كانت نموذجا فريدا للغاية، أظهرت أن مواقف النخبة في مصر أو الدول العربية تجاه إيران وثورتها ليست دقيقة أو صحيحة. وعندما سألته كيف حصل على مثل هذه المعلومات؟ أجاب قائلا إن بعض الإيرانيين المتواجدين في لوس أنجليس أبلغوه أن الخميني خطف الثورة من الشعب الإيراني. ثم بدا لي بعد لحظة أنه ربما التقى مع بعض أنصار منظمة مجاهدين خلق الإيرانية في لوس أنجليس، لأنه أشار إلى أن من كان يقود الثورة آنذاك ينتمي إلى منظمة مجاهدين خلق. وقلت إن ما تقوله ليس سوى كوميديا فريدة من نوعها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث أخبرته إنك عندما تود تقييم قضية ما، عليك أن تعرف الكثير من المعلومات حتى تتمكن من تناول الظاهرة من وجهات نظر مختلفة وبنظرة متعمقة. كيف يمكن أن تزعم أن لينين خطف الثورة الروسية من شعبها. فإذا ما قرأنا جميع الوثائق التاريخية، بما في ذلك أكثر من ستين مجلدا حول إنجازات لينين بأكملها، أو على الأقل الوثائق، فسنستنتج أن لينين هو القائد الحقيقي للثورة الروسية. وكذلك كان آية الله الخميني الزعيم الفعلي للثورة الإيرانية. وأضف إلى ذلك أنه عين جميع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

بدأ الخميني بالحديث عن نظرية ولاية الفقيه في النجف قبل انتصار الثورة الإيرانية بنحو 15 عاما. ويكمن جوهر نظريته في إمكانية إقامة حكومة إسلامية. وعندما انتقد أحد آيات الله في مدينة قم الإيرانية نظرية الخميني مستشهدا بأنه لا يوجد دليل واضح يدعم هذه النظرية، أجاب الخميني قائلا أنا أتفق معك، وأفترض جدلا عدم وجود آية أو حديث يؤيد فكرة إنشاء حكومة إسلامية، ولكن لدي سؤال بسيط لك: هل نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) قام بتشكيل حكومة أم لا؟ من الواضح أنه أسس مجتمعا مدنيا تغيرت فيه القيم القبلية إلى أخرى إسلامية. وبعث برسائل إلى الملوك والزعماء للدخول في الدين الإسلامي، وقاد غزوات ضد الكفار والأعداء. هل تعتقد أننا يجب أن نتبع نبينا؟ ألم يقل الله تبارك وتعالى: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (سورة الأحزاب الآية 21).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تم اغتيال آية الله دستغيب من قبل أعضاء مجاهدين خلق في انفجار انتحاري بمدينة شيراز عام 1981، وكان دستغيب تلميذا من تلامذة آية الله الخميني ورمزا أساسيا للثورة في مدينة شيراز. ورأينا في مدن أخرى شبكة قوية واسعة النطاق من رجال الدين، معظمهم من تلامذة الخميني أو طلاب تلامذته. وبعبارة أخرى، من المستحيل خطف قيادة كل ثورة. إن الأجواء السياسية والاجتماعية للثورات تجعل من المستحيل على أي شخص خطف قيادة أي ثورة مهما كانت.

اسمحوا لي في هذا السياق أن أقول إن هناك مشكلة هائلة في تاريخنا الفكري، وهي أننا لم نحدد معاني الكلمات التي نستخدمها بوجه من الدقة. ويعتقد المفكر الراحل محمد أركون أن أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم إحراز تقدم في النواحي العلمية والثقافية في العالم الإسلامي هو عدم وجود ما يسمى بفقه اللغة (فقه اللغة التاريخي والمقارن) أو تاريخ الكلمات. إننا نتحدث مع بعضنا البعض دون توضيح أبعاد ومعاني كلماتنا في ضوء تاريخها. فمثلا، تخيل شخصين يتحدثان مع بعضهما البعض، ويستخدمان كلمات مشتركة ولكنها تحمل وجهات نظر مختلفة، وبالتالي سيختلف معنى هذه الكلمات في أذهانهما تماما. يرتبط ذهن أحد الشخصين بالعصور الوسطى، بينما الآخر مرتبط بالقرن الواحد والعشرين.

ولنا أن نشير هنا إلى كتاب فلسفي وصوفي مهم جدا يسمى «حديقة الأسرار» كتبه الشيخ محمود شبستري في القرن الثامن الميلادي؛ حيث يقول شبستري: «هل تعرف لماذا نواجه صعوبات في فهم بعضنا البعض؟ لأن كل شخص يتحدث من منطلق أفكاره الخاصة ومثله وموقفه».

وفي هذا الصدد، يطرح سؤال مهم جدا نفسه هنا: كيف يمكننا أن نفهم بعضنا البعض؟ وكيف يمكننا أن نوضح مواقف الأشخاص الآخرين؟ وما هو الطريق الصحيح والمنطقي لفهم الآخرين؟ وغالبا ما ننكر وجهات نظر الآخرين؛ لأن آراءهم لا تتطابق معنا في الواقع.

كيف يمكننا أن ننظر إلى الأبعاد والوجه الحقيقي لظاهرة ما؟ لا سيما أننا بحاجة إلى استخدام الكلمات في مكانها الحقيقي. ويدور السؤال الثاني حول: متى يمكن أن نستخدم الكلمات في موقعها الحقيقي، والتخلص من برج بابل؟

وكان رد محمد أركون يتسم بالذكاء الشديد؛ حيث قال: «عدم وجود قاموس تاريخي للغة العربية حتى الآن، فضيحة سياسية وعلمية لعالم عربي يفتخر بلغته صباح مساء، لكنه لن يقدم شيئا يذكر لخدمتها والاعتناء بها وتطويرها كما يفعل الفرنسيون مثلا، فالفرنسيون يملكون قاموس (روبير الكبير) أو (كنز اللغة الفرنسية). فهذان المعجمان يقدمان معاني الكلمات الفرنسية منذ أقدم العصور وحتى اليوم». (محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ص. 396).

ومع احتواء عالمنا الإسلامي على لغات متعددة، بما في ذلك الفارسية والتركية والأردية والإندونيسية.. وهلم جرا، إلا أننا لا نمتلك قاموسا تاريخيا لهذه اللغات. ونتيجة لذلك، شعرت أنه توجد بيني وبين الدكتور سعد الدين إبراهيم فجوة ما رغم أننا كنا نتحدث باللغة العربية.