مملكة البحرين.. خيار حوار التوافق الوطني هدف ووسيلة

TT

قبل بدء المتغيرات الدولية التي اجتاحت المنطقة مع انتهاء الحرب الباردة، والتي توجت باحتلال العراق في عام 2003، بما خلفه هذا الاحتلال من اختلال كبير في موازين القوى في المنطقة العربية عموما، والخليج العربي خصوصا، وقبل بدء إرهاصات إعادة تشكيل النظام الدولي الجديد والصراع بين نظام القطب الواحد والتعددية القطبية، قبل بدء كل هذا توجهت مملكة البحرين، الواقعة في قلب الخليج العربي، نحو تعديل شؤون الجزيرة الاستراتيجية الصغيرة عبر الإصلاح الجوهري في نظام الحكم.

وقد بدأ هذا التعديل بسلسلة من الحوارات والمشاورات مع مختلف الفئات المجتمعية والقوى السياسية والمواطنين ورأس الحكم، سمو الأمير الجديد (حينها) حمد بن عيسى آل خليفة، وتكللت هذه اللقاءات والحوارات بقرار سياسي جماعي حول ضرورة التغيير والاتجاه نحو الديمقراطية الدستورية من خلال مشروع إصلاحي طرحه سمو أمير البلاد حينه بنصوص ميثاق العمل الوطني، ودعوة نخبة مكونة من 30 شخصية بحرينية من مختلف الفئات والقوى السياسية لمناقشته لمدة 30 يوما، ومن ثم استفتاء الشعب عليه في فبراير (شباط) 2001 وفوزه بمعدل 98.4% من الأصوات، بمشاركة شعبية منقطعة النظير.. وكان ميثاق العمل الوطني هو البوابة البحرينية نحو مرحلة سياسية جديدة تناسب التحولات الدولية التي باتت تفرض نفسها في ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وبدأت عجلة التحول الديمقراطي في البحرين بتفعيل الدستور، وعبر حزمة من التعديلات الدستورية في عام 2002، تم بموجبها إدخال نصوص الميثاق الوطني، المستفتى عليه، على دستور عام 1973، وكان على رأسها:

1) عودة السلطة التشريعية للحياة والعمل بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث بعدما كانت السلطة التنفيذية ممثلة بأعضائها في البرلمان البحريني بموجب نصوص الدستور القديم (1973).

2) حصول المرأة البحرينية على حقوقها السياسية كاملة بعد أن كانت قد حرمت منها بموجب نصوص الدستور القديم (1973).

3) إنشاء المحكمة الدستورية وإصلاح السلطة القضائية واستقلاليتها التامة.

4) بناء باقي المؤسسات الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني.

5) التوقيع والمصادقة على مختلف المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي باتت في ما بعد، وبالتدريج، جزءا من التشريعات البحرينية، وأهمها الإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي لمبادئ حقوق الإنسان.. وغيرها.

6) إطلاق الحريات بضمانات دستورية وعلى رأسها حرية الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي.

7) انطلاق تأسيس الجمعيات السياسية المرادفة للأحزاب.

8) تعزيز مبادئ المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان في مناهج التربية والتعليم في كل مراحلها... إضافة إلى سلسلة من التحولات التدريجية التي لا يزال العمل جاريا بها نحو استكمال مراحل التحول الديمقراطي.

إن أهم ما جعل المشروع الإصلاحي البحريني ذا قيمة حقيقية ومتفقا عليها شعبيا ورسميا هو:

أولا: لأنه الوسيلة الأنجع في تحقيق أي تغيير سياسي عادل دون عنف أو إراقة الدماء، ودون غلبة طرف على آخر، ودون تسيد فئة وإقصاء فئة.

ثانيا: لأنه جاء عبر سلسلة من الحوارات واللقاءات والاجتماعات بين كل الأطراف من القمة حتى القاعدة.

ثالثا: لأنه احترم النسيج المجتمعي والوطني الموحد الذي يتميز به المجتمع البحريني المتعدد الأعراق والأديان والمذاهب والعشائر.

ورابعا: لأنه حافظ على نموذج النظام البحريني المدني الملتزم بقيم الإسلام وكل الأديان، والذي يمثل نظاما تعدديا فريدا يجمع بين الحضارية والالتزام بالقيم المحافظة والتراث، ويحترم الحريات قبل صدور الضمانات الدستورية، مع الالتزام الكامل باحترام حقوق المرأة، في بيئة إقليمية تقليدية.

وبدأت مسيرة الإصلاح في البحرين التي تحولت إلى مملكة في التعديل الدستوري لعام 2002.. وبإرادة سياسية صادقة، ومشاركة كل الأطراف السياسية، بدأ التحول من الدولة ما قبل الدستورية إلى الدولة الدستورية المؤسسة لتنظيم شؤون الحكم والإدارة العامة والعلاقة بين السلطات الثلاث والمؤسسات الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني. وعملت مملكة البحرين خلال 12 عاما (2001 - 2013)، هو عمر المشروع الإصلاحي حتى الآن، وبقيادة صاحب المشروع، جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، على الارتقاء بالمؤسسة التمثيلية ومأسسة الوظيفة المنبرية الدستورية بموجب المعايير المعتمدة في الديمقراطيات ليكون الدستور والقانون هو الفيصل الذي يحكم كل الفئات والأطراف بما يضمن العدالة وسلامة المجتمع ووحدة النسيج الوطني، ويتقدم بالمجتمع نحو الديمقراطية ممارسة وفكرا، وذلك من دون أن يزعم أحد حتى اليوم أن المسيرة الإصلاحية وصلت إلى أهدافها النهائية، أو اكتمال فصولها ومراحلها، مع مراعاة أهمية التحول التدريجي المنضبط مع التغييرات المتسارعة في المنطقة.

وفي ظل هذه التغييرات، فوجئ البحرينيون في عام 2011 بما عصف بالبلاد من أحداث أمنية حاول البعض ركوبها لتوجيه دفة الإصلاح نحو إلغاء النظام، شكلا ومضمونا، وهدم كل ما تم تأسيسه في بناء الدولة البحرينية الحديثة من مكتسبات حضارية وديمقراطية، بدعوى البدء من جديد في بناء دولة جديدة تقوم على أسس المحاصصة المرفوضة في أي مجتمع مدني تعددي متجانس كما هو المجتمع البحريني.. فاكتسحت بلادنا المدنية أحداث خطيرة توجهها المنابر والمراجع والفتاوى الدينية، ويقودها سياسيون بتوجهات تسودها الفئوية العقائدية دون اعتبار لباقي الفئات المجتمعية التي وقعت في تلك الأيام فريسة الخوف على أمنها ومستقبل الوطن، في ظل التقلبات الإقليمية الخطيرة التي تعيشها المنطقة وتتحكم بها قوى العنف والإرهاب في صراعات طائفية ودموية خطيرة.

ورغم كل ما حدث، فإن البحرينيين اختاروا الحوار وسيلة لإنهاء كل تلك الأحداث والهواجس التي سادت أثناءها، فأطلق ولي عهد البحرين مبادرة الحوار الأولى في الأسبوع الثاني من الأحداث من دون أن يستجيب لها المحتجون طوال الأسابيع الثلاثة التي استمرت بعدها الأحداث.. وجاءت مبادرة الحوار الثانية من جلالة ملك البحرين الذي دعا لها أكثر من 300 شخصية بحرينية لحضور مؤتمر التوافق الوطني في أربعة محاور رئيسة للتباحث حول أهم القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وأكمل المتحاورون جلساتهم التي استمرت على مدار شهر يوليو (تموز) 2011، رغم انسحاب بعض جمعيات المعارضة منها.

وكانت حصيلة تلك الجلسات أكثر من 290 توصية رفعها المتحاورون إلى جلالة الملك بصفته السلطة الضامنة لتنفيذ مخرجات الحوار، والذي أمر الجهات المختصة بتنفيذها، ودخلت كل تلك التوصيات حيز التنفيذ على مدار عام واحد.. وهنا يجب التنويه بأن تلك التوصيات توجت بحزمة من التعديلات الدستورية الكبرى أعطت مجلس النواب كامل الصلاحيات الرقابية والنيابية.

ورغم ذلك، وبهدف لم الشمل واحتواء كل فئات الشعب في بوتقة الوطن والمواطنة، أعلن جلالة الملك عن بقاء باب الحوار مفتوحا لمن لم يشاركوا، وانسحبوا، من حوارات سابقة.. وبدأت جولة جديدة من الاتصالات والمشاورات مجددا، بقيادة وزير العدل البحريني، لإقناع كل الأطراف بقبول الجلوس معا على طاولة حوار ثانية، وأسفرت تلك المحاولات التوفيقية عن انعقاد أولى جلسات حوار التوافق الوطني في 10 فبراير 2013، في محوره السياسي لاستكمال ما لم يتم استكماله في الحوار السابق، بمشاركة ممثلي كل الجمعيات السياسية والأطراف الأخرى.

وفي هذا السياق أعلنت الحكومة البحرينية، مرارا وتكرارا، وانطلاقا من مسؤولياتها ومشاركتها في الحوار الوطني، عن اهتمامها البالغ بالحوار الوطني التوافقي، وسعيها الجاد لتحقيق صيغ توافقية في مجال التطور السياسي بمشاركة جميع المكونات السياسية، ومن خلال البناء على ما تحقق من منجزات، بما يحقق مكاسب وطنية جديدة ويرفد مسيرة البناء ويدعم المشروع الإصلاحي الذي أسس له ملك البلاد، وذلك انطلاقا من القناعة التامة بأن الضمانة الحقيقية للتطور والبناء هي العمل ضمن دولة المؤسسات واحترام حكم القانون والدستور، الذي يشكل السبيل الحضارية الأرقى في حل الخلافات وتحقيق الأهداف وسبيل كل من ينشد التقدم والنماء.

وما زال مؤتمر حوار التوافق الوطني البحريني مستمرا على أمل الالتزام بالتعاطي الإيجابي مع الفرصة القائمة دونما شروط مسبقة أو سقف في ظل الالتزام بالأطر الدستورية والتوافق الوطني.. وعلى أمل مأسسة الحوار كمنبر تمثيلي حضاري يصب في القنوات الدستورية ويعزز تجانس المجتمع التعددي.

* كاتبة بحرينية ووزيرة الدولة لشؤون الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة