بين عصرين

TT

كان فتوات الأحياء القديمة في القاهرة مادة خصبة لروايات الأديب الراحل نجيب محفوظ، التي تحول بعضها إلى أفلام سينمائية، ولعل أشهر شخصيات هذه الفتوات عاشور الناجي في «بين القصرين» الذي خاض معارك حتى أمن حارته ضد اعتداءات فتوات الحارات المجاورة.

ظاهرة «الفتوات» قديمة في مصر، ويبدو أنها بدأت في الفترات الأخيرة من العصر المملوكي مع التدهور التدريجي لقوة الدولة وسيطرتها واضطرار بعض أحياء القاهرة إلى حماية نفسها أمام عصابات ووضع بوابات عليها، وكان الفتوة أو الفتوات يقومون بما يشبه دور الشرطة الشعبية، أو شيء يشبه ما يطلق عليه الآن «اللجان الشعبية»، وبدأت تتلاشى مع تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي، وإن كانت ظلت بشكل أو آخر في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته.

لم تكن الظاهرة كلها شرا، فالناجي في رواية محفوظ كان يفرض الأمن والعدل، ويروى أن بعض المماليك كانوا يستعينون بهم في مواجهة أعداء خارجيين مثل طومانباي، لكنها في حد ذاتها ظاهرة تنم عن إضعاف لفكرة الدولة نفسها التي من المفترض أنها الوحيدة صاحبة الحق في فرض القانون وحمل السلاح وفقا لما تأسس في عهد الدول الحديثة منذ بداية القرن العشرين، وهي في أحيان كثيرة تتحول إلى مسألة فرض إتاوات أو فرض القوة دون شرعية أو تأسيس من قوانين وضعية يمكن التعامل بها في قضاء ومحاكم، كما أنها تؤسس لفكرة الخوف.

الناجي يبدو أن له نماذج مماثلة في مصر التي تمر بمرحلة انتقالية بعد 25 يناير (كانون الثاني) 2011 مع تدهور الوضع الأمني وعدم قدرة الشرطة على فرض القانون في الشارع، فقد ظهرت اللجان الشعبية لحماية أحياء ممن يطلق عليهم البلطجية الذين يستغلون الأوضاع في ترويع الناس، وكان لا بد أن يصاحب ذلك الظواهر السلبية، من الشخصيات التي تخرج في أوقات الاضطراب لتستغل الأوضاع، والقصص المروية كثيرة.

إحدى هذه القصص على لسان راويها هي للأستاذ «سوستة»، وهو اسم كناية، والسوستة كما يطلق عليه أهل الشام هو «السحّاب» الذي يستخدم في بعض الملابس. باختصار، كانت هناك صفقة عادية يجري عشرات أو مئات منها في أحد الأحياء القديمة بين بائع ومشترٍ، وعندما تمت الصفقة ظهر فجأة السيد سوستة ليقول له إن هناك أصحاب حق لم يتسلموا نصيبهم، فاستغرب البائع وفجأة وجد عددا لا بأس به من الصبية يبلغونه أنهم هم الذين حموا المنزل وقت الثورة، ويريدون حقهم، وآثر البائع السلام ودفع مبلغا وانتهت القضية.

في أوضاع عادية يصعب أن يحدث أمر مثل هذا، وهي ظاهرة وإن كانت لها أسبابها الاجتماعية مثل البطالة، والوضع الاقتصادي السيئ الذي يجعل الناس يخترعون أي شيء ليتكسبوا منه، فإنها في النهاية مؤشر سلبي على العودة إلى الوراء. فما كان يحدث في نهاية عصر المماليك، أو في بعض فترات بدايات القرن العشرين، لا يصح أن يحدث في القرن الواحد والعشرين، خصوصا بعد جهود أجيال وأجيال في بناء مقومات دولة حديثة.

يحدث في بعض الأحيان أو في حالات كثيرة في الدول النامية أن تشط بعض أجهزة الدولة أو ينقم الناس على ممارسات لها، والحل الأمثل يكون بالإصلاح والتطوير وتعزيز القانون، والبناء على ما بنته أجيال سابقة، فليس معقولا أن يكون كل ما حدث في السابق شرا، ولو جاء كل جيل وقرر أن يبدأ من جديد، لم تكن هناك لا حضارة ولا مدنية أو ثقافة لأن العملية الحضارية هي في النهاية بناء تراكمي.

في الجمهوريات العربية التي شهدت ثورات أو انتفاضات، ما زالت بعد عامين أو أكثر الأوضاع في حالة سيولة، ولم يحدث الاستقرار السياسي بعد بسبب الصراعات المحتدمة، وفوران الشارع، ولكنها حتى الآن لم تستطع أن تضع دساتير توافقية تؤسس لمستقبلها الجديد في إطار رؤية جامعة للمجتمع يستطيع الفرقاء أن يختلفوا تحت مظلتها، وبالطبع سوريا حالة استثنائية، ولا يمكن التكهن بشكل أو طبيعة الدولة عندما تتوقف المدافع.

مفهوم أن المرحلة الانتقالية من عهد إلى عهد تحتاج إلى أن تأخذ وقتها، لحين الوصول إلى تفاهم سياسي، ولكن المرحلة الانتقالية يجب أن لا تكون سببا لفرض قانون الشارع أو تدمير الدولة نفسها، وإلا أصبح الإصلاح شديد الصعوبة.