كتاب ممتع ودروس أهم

TT

الكلمة سرها عجيب، وطوبى لمن تأمل فيها وتمكن من تأويل المعاني وقراءة السطور بعناية ومعرفة المغزى والمعاني لما يقع بمهارة وحرفية بينها. الكلمة لها وقع وأثر مهول، وإن من البيان كما هو معلوم «لسحرا».

وفي هذا السياق كان لدور الأدب تحديدا والفنون عموما الشيء الكبير لقراءة التحولات المجتمعية وإطلاق الإنذارات والتحذيرات المبكرة، وفي الفترة الأخيرة وتحديدا في مصر كان الكثير من المسلسلات التلفزيونية والروايات الأدبية والقصائد الشعرية والأفلام السينمائية والمسرحيات والأغاني يحذر من «طوفان» قادم ويبرز خللا في التكوين المجتمعي ويسلط الضوء على أمثلة للفساد والاستبداد والطغيان، والأعمال معروفة وناجحة ولكن لعل أبرزها الفيلم السينمائي «حين ميسرة» الذي وضح بشكل صادم ومقلق ومخيف كارثة «العشوائيات» و«الحياة السفلية» التي يعيش فيها هؤلاء، بلا أمل ولا كرامة ولا حقوق فيصبح كل شيء مستباحا وكل شيء ممكنا ما دام الشخص ليس لديه أي شيء يخسره.

والعمل الآخر كان رواية «عمارة يعقوبيان» المبهرة للروائي طبيب الأسنان علاء الأسواني التي قدمت تشريحا مرعبا ودقيقا للغاية عن الانقلاب الاجتماعي الحاد الذي أصاب المجتمع المصري نتاج ظروف سياسية ومالية وفكرية حادة، الرواية انتقلت بين شخصيات أبطالها لتكون مرآة عن الواقع المزعج الذي أصاب «أم الدنيا» كما يطلق على مصر من قبل محبيها، ورمز الكاتب لهذا الانقلاب بعمارة في وسط البلد المهجور تلقائيا من صفوة الناس لتكون البناية نفسها واجهة للتغير أو التدهور في القيم والأخلاق والمبادئ والخلط العجيب للدين والسياسة والمال بحيث تحول الوضع إلى كوكتيل مرعب وخلطة مدمرة، وتنبأ الكاتب كما الفيلم من قبله بحدوث «شيء ما» لأن بقاء الحال كما هو لا يمكن استمراره وأن تطورا خطيرا سيأتي ولا ريب.

والآن انتهيت للتو من قراءة الرواية الأخيرة لعلاء الأسواني وهي رواية أنيقة باسم أكثر أناقة وهو «نادي السيارات». والرواية تغطي فترة ذهبية من التاريخ المصري المعاصر، فترة الأربعينات الميلادية من القرن الماضي، ويظهر علاء الأسواني بقلمه «الحريف» الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لفترة محورية من تاريخ مصر وعلاقة رجال الأعمال والنفوذ بالحكم والسياسة وعلاقات الحضور والجاليات الأجنبية الكبيرة والمؤثرة اقتصاديا وفكريا على الساحة المصرية بشكل عام والنظرة المشتركة بينهم وبين المصريين، وكذلك يبرز «الفجوة» الموجودة بين الشمال والجنوب وتحديدا بين الصعيد وجه قبلي ووجه بحري والنظرات المختلفة للمناطق وبعضها، وأثر ذلك على الخطط التنموية والتعيينات، وخلق بالتالي بؤر محاسيب وأنصار تكون خلايا للفساد، والتدهور السياسي والاقتصادي الذي يأتي دوما معهما، وبشكل مخيف ومرعب.

الكتاب فيه الكثير جدا من الإسقاطات التي من الممكن قراءتها على الواقع المصري الحالي، وهو ما تعمد الكاتب الأسواني إبرازه وذلك للتأكيد على فكرة أن التاريخ يكرر نفسه ولا بد من الاستفادة الكبرى منه وأخذ العبر والدروس والإيمان الكبير أنه لا يوجد شيء عشوائي في أحداث الزمان وتغيرات وتقلبات الأوضاع.

الكتاب هو رواية ولكنها صادمة في الكثير من مشاهدها وتبرز مجددا قدرة «الكلمة» على إجبار قارئها في التأمل والتدبر والتفكير والنظر بتمعن في الوقائع والأخبار والأحداث بدلا من مجرد متابعتها من وجهة نظر ترفيهية بحتة وبالتالي تفقد فرصة الاستفادة سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد المجتمعي التراكمي وهو الأهم.

رواية «نادي السيارات» لعلاء الأسواني مادة فكرية وسياسية وثقافية خصبة تحكي أن النار تهب وتشتعل من مستصغر الشرر، وأن على المجتمعات التنبه وبأعين مفتوحة وضمائر مستيقظة تماما لما يدور داخلها وحولها، وهذا هو المغزى الأهم والأخطر من الرواية المحكمة والممتعة.

علاء الأسواني طبيب أسنان «غاضب وثائر» ولكنه يعكس ثقافة فكرية فيها آثار ثلاث خلفيات: الصعيد الذي هو منه، والفرنسية التي تأثر فكريا جدا بها وأتقن لغتها، والأميركية التي درس على أرضها وتمعن في التجربة هناك.. والكتاب يعكس كل ذلك بشكل مدهش.

[email protected]