لا توجد خبزتان أو امرأتان متماثلتان

TT

من نعم الله على عباده أن بصرهم لاكتشاف واختراع (الخبز)، لهذا كان رمزا في جميع الأديان ومعظم التقاليد، ولهذا أيضا لا أتصور أنا وجودي من دونه.

ومن المستحيل الآن أن أجلس على مائدة دون أن يكون عليها خبز، وحتى لو لم آكله فعلى الأقل أمتع نظري به.

وثقافتي ولا فخر هي بالدرجة الأولى ثقافة طحين وخميرة وخبز بجميع أشكاله وألوانه وأصنافه، وتستطيعون من هذه الناحية أن تعتبروني مرجعا في هذا المجال الحيوي، ابتداء من خبز البدو (الجمري) وانتهاء بخبز (ليونيل بولان) الفرنسي، وهو الرجل العبقري الذي أخذ مهنته هذه من تداول آبائه وأجداده لها منذ القرن السادس عشر.

وللمعلومية فلا يدخل قصر (الإليزيه) في باريس غير خبز (بولان)، ابتداء من (شارل ديغول) حتى الآن من الرؤساء، ولا شيء كدر خاطر (نابليون) في غزواته إلا افتقاده لذلك الصنف من الخبز، إلى درجة أنه كره شرب النبيذ لأنه غير مصاحب له.

عموما للناس فيما يعشقون مذاهب، مثلما قال أحدهم.

ولكي لا يجرفني الحكي دعوني أعود لخبز (بولان) الذي لا تحط قدمي في باريس إلا وأذهب ركضا لشرائه وأقضمه وأنا أسير في الشارع مثلما يقضم أي جرذ عاشق سنابل القمح أو حتى ذنب أنثاه.

أرجوكم لا تسخروا من عشقي هذا، خصوصا إذا عرفتم أن الطائرات تحمله يوميا إلى مختلف أنحاء العالم ابتداء من الولايات المتحدة حتى اليابان.

فالحصول عليه ليس بهذه السهولة، وكثيرا ما وقفت (بالطابور) لمدة تزيد على النصف ساعة لكي يأتيني الدور، وفي أيام الحرب الباردة عندما كان (الاتحاد السوفياتي) حيا يرزق، كثيرا ما كانت صحيفة الحزب الشيوعي «برافدا» تنشر صور مئات المنتظرين لشرائه قائلة: إن «الاقتصاد (الرأسمالي) آخذ في الانهيار، انظروا ففي باريس نقص الخبز اضطرهم للوقوف بالطوابير»، ومرت الأعوام وانهار الاتحاد السوفياتي، واليوم هناك أكثر من مركز لهذا الصنف في (موسكو)، بل إنه يتصدر مائدة الرئيس (بوتين) في المناسبات الرسمية.

والحرب بالمناسبة لا تشن بالقنابل والصواريخ فقط، ولكنها أيضا قد تشن بأرغفة خبز، وأكرم وأرحب بها من حرب، ولو أنها اقتصرت على ذلك لكان العالم بخير.

وفي مقابلة صحافية مع (بولان) وعندما سألوه عن سر الإعجاز في خبزه قال:

«الأمر بسيط، إنه الخبز نفسه الذي كان أجدادنا يأكلونه، والحق أن أرغفتنا المستديرة هي حصيلة قرون من الفن والتجربة وخبزنا المصنوع من الدقيق المطحون بالحجر يضرب إلى السمرة، ونحن لا نستخدم غير خميرة طبيعية، ونخبز الأرغفة على النحو القديم في أفران من الآجر، وكل عملنا يعتمد على اليدين لأنها أكثر حنانا، لهذا من المستحيل أن تجد خبزتين متماثلتين، مثلما لن تجد امرأتين متماثلتين» - انتهى.

والآن، الآن فقط انتبهت على نفسي، وأخذت أتساءل: لماذا أنا خضت اليوم في هذا الموضوع السطحي الذي لا يهم الغالبية العظمى من القراء - هذا إذا كان هناك ثمة من قراء؟

وأعتقد والله أعلم أنني الآن بالفعل جائع، ليس للخبز وحده، ولكن لغيره أيضا، وهذه هي مصيبتي الكبرى التي لا أدري كيف أعالجها وأشفى منها؟ (!!).

[email protected]