تفجيرات بوسطن و«الإسلاموفوبيا»!

TT

من المبكر جدا الحديث عن التفجير الماراثوني في «بوسطن» على الأقل من ناحية مهنية حتى انتهاء التحقيقات رغم كل الضجة التي أثيرت بعد الانفجار بحكم تسارع منصات الإعلام الجديد كما هو متوقع في البدء بمعركة تصفية حسابات في محاولة لتسييس ليس التفجير فحسب، ولكن لتمرير رسائل سياسية بين التيارات التي باتت تتخذ من أي حدث محلي أو عالمي فرصة للاحتراب حوله والنيل من الطرف الآخر.

أكثر من عشر سنوات مرت على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أثبتت أن الإعلام الغربي، والأميركي على وجه الخصوص، إذا ما استثنينا النشاز «اليميني» قد تعلم الدرس جيدا، فهو لا يسارع في توصيف الحدث على طريقة الاشتباه، كما أنه حذر جدا في التعامل مع ما يمس سمعة أحد أهم المكونات الاجتماعية في أميركا وهم العرب والمسلمون والطلاب القادمون من الخليج، وبالأخص السعودية، حيث يقطن في مدينة بوسطن، قبلة التعليم العالي المميز، ما يزيد على 6 آلاف مبتعث.

خطاب الرئيس أوباما كان متعقلا، وحتى تصريحات المسؤولين الأمنيين وقادة الشرطة والمتحدثين عنها كانت تعكس نضجا كبيرا على مستوى توصيف الحدث والحرص على عدم الإشارة بأصابع الاتهام لأي جهة، هذا النضج الذي يجب الإشادة به في مقابل ما يمكن توصيفه بـ«عقدة الذنب» التي لا نزال نعاني منها تجاه أحداث 11 سبتمبر، والتي تحولت من الهلع كلما مر حدث إرهابي إلى ثنائية «الاشتباه بالذات/ تبرئتها» التي سيطرت على ردود فعلنا.

الحقيقة الخالصة تقول إن أكثر دولة عانت من ويلات الإرهاب هي السعودية، كما أن خطابها الرسمي وجزءا كبيرا من خطابها المجتمعي، أصبح واعيا تجاه آفة «الإرهاب»، وهناك الكثير من القلق تجاه المبتعثين والطلاب وحتى الإجراءات الجديدة التي تخص برنامج «المسافر الموثوق»، وهذه كلها مؤشرات على وعي نسبة كبيرة من المجتمع بخطورة استغلال الإرهابيين لحالة التعافي تجاه «الإسلاموفوبيا».

الآن وبعد مرور كل هذه السنوات نحن بحاجة إلى حوار مع الذات أكثر من أي وقت مضى، فالخطابات المتطرفة المتعاطفة مع فكر «القاعدة» الذي بات فكرا معولما يجد محاضنه في أزقة وشوارع الغرب وضواحيه أكثر من البلدان الإسلامية، كما تحدثت في مناسبة هنا عن «الإرهاب الأشقر»، ما زالت تلك الخطابات تحاول استغلال الأحداث للضغط على الولايات المتحدة باتجاه قضايا معينة في منطق خاسر يقول: القتل والتخريب والتدمير مبرر ما دام هناك أزمات شرق أوسطية عالقة!

ما يقوله الإرهاب لنا هو إنه بلا لون أو جنسية أو دين، وهذا ما ستؤكده الأيام المقبلة بغض النظر عن الفاعل، ذلك أن كل عملية إرهابية تضرب بفوضاها عالم اليوم ترسخ الاعتقاد أن التطرف والعنف حالة مستقرة تنتظر مسبباتها وليس مجرد احتقان أو موجة عابرة.. تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابها، حيث التعصب لا دين له ولا مذهب.

حدث بوسطن لا يزال غامضا في دوافعه أو من يقف وراءه بالتحديد، والمؤشرات التي أقرؤها من خلال فهمي لنمط تنظيم القاعدة أنها بعيدة عن حدث كهذا، فنوعية المتفجرات وطريقة صنعها وأيضا رد الفعل ما بعد الحدث وعدم المسارعة في تبنيه، إضافة إلى وضعية فكر «القاعدة» في هذه المرحلة الربيعية من حيث استراتيجيته في إعادة التموضع والبناء إضافة تؤكد كل هذه المؤشرات أنه حدث «يميني» النزعة والدافع أو فردي لشخص قد يكون متعاطفا مع قضية ما.

رد الفعل تجاه كارثة ماراثون بوسطن كان صادما إذا ما نظرنا إليه من زوايا مختلفة، فالإعلام الغربي لم يقع كما كان متوقعا في فخ «التنميط والنمذجة» إذا ما استثنينا بعض الجرائد «الصفراء»، إلا أن منصات الإعلام الجديد وعلى رأسها «تويتر» الذي زخر بتعليقات كثيرة تشير بأصابع الاتهام للذات في دليل على أن عددا من التيارات الفكرية والسياسية لدينا لم تتجاوز بعد عقدة «القاعدة»، سواء كانت عقدة ذنب أو كفكرة مسيطرة ملهمة في المعركة المتوهمة مع الغرب.

هذه «النمذجة» يمكن فهمها في السياق الغربي وليس تبريرها.. يمكن فهمها في إطار فلسفة «العدو الافتراضي»، فالتاريخ الطويل من العمليات الإرهابية التي حفل بها سجل تنظيم القاعدة جعل حالة الاستسهال جزءا من العيوب والنتائج السلبية لمخرجات الإعلام الذي يمر بتحولات هائلة على مستوى المصداقية ومرجعية الخبر وطريقة نسبته للمصدر بسبب حالة التنافسية بين الإعلام الجديد والتقليدي، لكن ما لا يمكن فهمه، فضلا عن تبريره، هو حالة الابتهاج التي بدأت تطفو على السطح ولا تخطئها العين في التعليقات الكثيرة التي لا ترى في كارثة بوسطن عقابا على التخاذل الغربي والأميركي في أزمة سوريا، هو الأمر الذي يطرح إشكالية فهم قطاعات واسعة من المثقفين والمفكرين الإسلاميين لموضوع «الإرهاب» وكونه حالة لا تنتمي للمجال الديني أو تقوم فقط على أسباب احتجاجية أو بسبب أوضاع التهميش وضياع الحقوق ولأسباب تتصل بالاستبداد السياسي، بل هي آيديولوجيا متطرفة قد تتذرع بكل ما سبق وتقتبس منه، لكنها تظل شكلا منفصلا من ممارسة التعبير غير السلمي لا يمكن أن تكون مبررة إذا كان فاعلها ينتمي لفضاء ديني أو فكري أو جغرافي، بينما تكون نقمة ودلالة على التعصب وبغض الأديان إذا جاءت من الضفة الأخرى.

وإذا كنا نتحدث عن «الإسلاموفوبيا» في سياق كل عملية إرهابية تحدث في الغرب، فإن اليوم يجب أن نفتح ملف «سعودة» الإرهاب باعتباره حالة انتهازية وتسييسا صارخا مرده إلى مكانة وحجم السعودية وتأثيرها وليس إلى منطق مقبول، فحتى على صعيد جغرافيا الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر فإن ثمة تفاوتا كبيرا في تنامي الحالة «القاعدية» لصالح مواقع أخرى كاليمن والمغرب العربي والآن سيناء وحتى الخلايا النائمة في الدول الغربية، وذلك مرده إلى أخذ السعودية الحرب على الإرهاب على محمل الجد وعلى لسان رأس الهرم الذي أكد أن معركتنا معه طويلة جدا.

أحداث «بوسطن» التي تبدو أنها محلية الصنع، فرصة ملائمة لمراجعة الحسابات تجاه «الذات» وعقدة الذنب، والانتهازية السياسية التي بدت تطغى على كثير من مثقفينا وإعلامنا ووعاظنا.. فرصة مهمة لتحديد مواقف أكثر صرامة من الإرهاب وأيضا «الترهيب» بغض النظر عن فاعله وزمانه ومكانه.

[email protected]