غاز «المتوسط».. سيناريو آخر في أسباب المصالحة

TT

خلاصة المشهد القائم حتى الساعة هي أن الرئيس الأميركي باراك أوباما نجح في إقناع الإسرائيليين بالتخلي عن عنادهم وتقديم الاعتذار للأتراك الذين تصلبوا في مواقفهم بموضوع الاعتداء على «أسطول الحرية» في عرض «المتوسط». وأجواء ما بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الثانية لتركيا خلال أقل من شهرين توحي أن أنقرة وتل أبيب رضخا أمام إصرار الإدارة الأميركية على منح الحوار والتفاهم بينهما الفرصة الكافية وتجاوز خلافات الماضي أمام التحولات والمستجدات الإقليمية التي تطال وتهدد المصالح الثلاثية بشكل منفرد وموحد وتحتم التعاون وتجاوز «لعنة مرمرة» التي وفرت للاعبين إقليميين ودوليين فرص ملء هذا الفراغ وتركيب شبكة تحالفات ومعادلات لن تكون محاولات التصدي لها أو تفكيكها بعد الآن بمثل هذه السهولة.

إصرار واشنطن على المصالحة التركية – الإسرائيلية، وكما فهمنا من حديث كيري في أعقاب لقائه المطول مع رجب طيب أردوغان، له علاقة مباشرة بـ:

- مسار الأزمة السورية وضرورة مواصلة أنقرة فتح أبوابها أمام المعارضة واللاجئين وتوفير الدعم الكامل لتحضيرات اجتماع أصدقاء سوريا المرتقب في الشهر المقبل.

- والتعقيدات القائمة على الساحة العراقية وإقناع حكومة رجب طيب أردوغان بتخفيف تصعيدها حيال حكومة المالكي وإغضابه بالاستفادة الكاملة من تطوير علاقاتها النفطية والتجارية مع أربيل وأكراد الشمال.

- والجمود الحاصل في الملف النووي الإيراني وتحضير تركيا لأي مفاجآت محتملة في هذه المسألة التي تتقدم في طريق مسدود.

- ومطالبة تركيا بتكثيف جهودها في دعم خطوات المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية تمهيدا لدفع الحوار الفلسطيني - الإسرائيلي شبه المجمد.

لكن التحرك الأميركي الأخير على جبهتي أنقرة وتل أبيب، وكما بدأت الصورة تتضح، سببه الأهم هو قطع الطريق على التحرك أو التحدي الروسي الاستراتيجي باتجاه لعب ورقة غاز شرق المتوسط في منطقة غير بعيدة عنه جغرافياً ويربطه بها كثير من المصالح الاستراتيجية ويحاول تحت غطاء هذه المادة التأثير في ملفات متداخلة مستفيدا من التراجع الأميركي والتشتت الأوروبي. نتائج المسح الاستكشافي لهذه البقعة رغم استحالة مقارنتها بالاحتياطي الغازي لروسيا قد تكون مهمة بالنسبة لدول الحوض الشرقي، لكن الهاجس الحقيقي هو قطع الطريق على روسيا التي تريد التحكم بمسار ومستقبل أكثر من أزمة إقليمية يكون الغاز مركز الثقل في تحديد مسارها.

واشنطن تريد أن تتم مشاريع نقل الغاز القطري والإيراني أيضا بالتنسيق معها، وربما هي تريد دمج كل هذه التحركات الغازية في استراتيجية واحدة مرتبطة بالسلام العربي – الإسرائيلي، وحل عقدة الملف النووي الإيراني، والأزمة السورية، والقضية القبرصية، وإبعاد الروس عن المنطقة، وربما دعم مشروع التغيير الحكومي في لبنان في إطار سياسة تقطع أكثر فأكثر مع دمشق. الخطوة الأولى على طريق الألف ميل الأميركية هي إنجاز المصالحة التركية - الإسرائيلية وتهيئة الحلفاء لمواجهة استراتيجية مركزها قعر شرق المتوسط. نتنياهو حاول أن يلعب الورقتين؛ القبرصية والروسية في موضوع الغاز، لكن يبدو أن أميركا وأوروبا كانتا أول من اعترض على ذلك، وتحركتا باتجاه الضغط على تل أبيب للاعتذار بدل البحث عن سبل توتير العلاقات أكثر من ذلك مع أنقرة.

إسرائيل لم تكن لتعتذر بمثل هذه البساطة لو لم يكن البديل مسيلا للعاب حقا.

قبول الاتحاد الأوروبي عام 2004 لقبرص اليونانية عضوا كاملا دون الأخذ بعين الاعتبار التحفظات والاعتراضات التركية، كان بين أسبابه مجاورة الشرق الأوسط الجديد والاقتراب استراتيجيا من السواحل السورية واللبنانية والإسرائيلية والمصرية. وكان للمجموعة الأوروبية ما تريد، لكنها لم تكن تعرف أن إلحاق جنوب قبرص بدائرة نفوذها يحمل لها الكثير من المخاطر بسبب بنية قبرص الاقتصادية المالية واستعداد قياداتها للمساومة على غاز الشرق الأوسط وكأنه الورقة الرابحة التي تمتلكها وحدها لإنقاذ نفسها وسياساتها. قبرص حملت التوتر والتصعيد إلى الحوض الشرقي للمتوسط ابتداء من عام 2005 عندما بدأت توقع عقود تقاسم النفوذ على شرق المتوسط غير عابئة بالمصالح التركية. نيقوسيا هي التي قرعت أبواب لبنان ومصر وتل أبيب لترسيم الحدود المائية على حساب قبارصة الشمال وتركيا، وهي التي تركت الأتراك والإسرائيليين أمام مواجهة عسكرية مباشرة قبل عام بعد أكثر من عملية اختراق إسرائيلية لأجواء ليفكوشه، وكانت آخر محاولاتها مساومة الروس على إخراجها من أزماتها المالية مقابل توحيد السياسات الغازية في إطار رسم خريطة جديدة من التحالفات وربما كانت هي الخطوة التي أغضبت الأوروبيين والأميركيين على السواء.

القبارصة اليونان يعرفون صعوبة وتكلفة نقل غازهم إلى أوروبا دون الشراكة التركية في المشروع، وإسرائيل، ورغم انفتاحها على نيقوسيا، فإنها تدرك أيضا استحالة نقل غازها هي الأخرى إلى العواصم الأوروبية وسط هذا السلوك العدائي والعزلة التي تحاصرها منذ سنوات بسبب تراجع علاقاتها مع أنقرة. لكن تركيا تعرف أيضا أن التعاون الغازي مع إسرائيل سيعني مشاركتها في الاستفادة من أكثر من تريليون متر مكعب من هذا المورد والحصول على حصة لا بأس بها من 235 مليار يورو والوصول إلى فرصة التحرر من القيود الروسية والإيرانية الغازية التي تطوق قراراتها الإقليمية وتقلص مسار حركتها. شركة «زورلو» التركية العالمية تفاوض الإسرائيليين منذ أشهر على المشاركة في تجهيزات نقل الغاز الإسرائيلي، وهو تحرك سبق الوساطة الأميركية بين أنقرة وتل أبيب، فهل يكون الغاز الإسرائيلي بديلا يقطع الطريق على الغاز الإيراني والروسي اللذين يقلقان تركيا ويحدان من انطلاقتها الإقليمية.

في جميع الأحوال، علينا، كالعادة، عدم المبالغة في التفاؤل، وتوخي الحيطة والحذر، فتجربة تحويل المياه التركية إلى بحيرة سلم إقليمي وجسر تقارب وتعاون بين دول المنطقة، ما زالت ماثلة أمام الأعين بكل سلبياتها، ولا نريد أن نفاجأ بتفاهم أميركي – إيراني، أو أميركي – روسي، يظهر إلى العلن عندما تشعر واشنطن أن لا فائدة من الرهان على إقناعنا نحن بتسليمها ما تريد والالتزام بحماية مصالحها حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح دول المنطقة وشعوبها.