لبنان الحكومة تكليفا وتأليفا.. اسما ومسمى

TT

يعكس الاسم المتميز إحساسا بالطمأنينة والاستبشار بالخير، خصوصا عندما يكون صاحب الاسم سيتولى مسؤولية بالغة الأهمية مثل مسؤولية ترؤس حكومة تدير شؤون البلاد والعباد. وتتعاظم الأهمية عندما تكون أحوال البلد على نحو ما هي عليه منذ بضع سنوات في لبنان المبتلى «فيروس» الولاءات الخارجية المنتشر في بعض أوساط أهل السياسة والحزبية والحركية.

يوم تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة للمرة الأولى 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1992م في العهد الأول «لبنان الطائف» كان الرجل في الثامنة والأربعين من العمر أي إنه في ذروة العمر النشيط والحيوية والهمة القوية، وجاء وقد أنعم الله عليه بثروة لا تحوجه إلى نهب المال العام. وإلى هذه النعمة كان هنالك التفاف عربي حوله لا نظير له في دنيا الالتفافات كونه لم يقتصر على مساندة خليجية له وإنما اتسع مدى المساندة إلى الأوساط الدولية ما أهله لأن يكون حاضرا في نادي أصحاب القرار. أما كيف يستفيد ويفيد بلاده من هذا الحضور فإن الأمر يتوقف على كياسته وحذاقته وأسلوب تخاطبه واغتنامه الفرص والمناسبات والحرص على رفع منسوب الثقة به بحيث تصل إلى ما وصلت إليه في شخص رفيق الحريري الذي استحوذ على ارتياح أهل القرار عربا وغربا وشرقا لشخصه من الخليج إلى ما بعد المحيط.

ومن محاسن اختيار الآباء أسماء أبنائهم أن بهاء الدين الحريري اختار لابنه اسم رفيق وهذا بدا تأشيرة في نفوس اللبنانيين الخارجين من أهوال اقتتال دام 16 سنة واجه خلاله اللبنانيون، وفي ظل الوجود السوري العسكري والسياسي، أبشع أنواع القهر والعوز والفلتان الأمني، ولذا فإنهم رأوا في رفيق الحريري أنه سيترفق بهم ويكون على درجة من اعتماد الحنية والحريرية في التعامل بأمل أن تنحسر الآثار النفسية ويأخذ الإنسان اللبناني المثخن بويلات الاحتراب القليل من الكثير الذي يحتاجه من الطمأنينة.

كان رفيق الحريري عند حسن الظن به واستطاع في ظل القبضة الحديدية الأسدية ابنا بعد أب أن يحقق لبني قومه ما يأملونه منه. ولو أن الغدارين لم يغتالوا رمز الحلم الذي كانت بشائره بدأت تتحقق خطوة بعد خطوة لكان لبنان الآن جنة الله على أرضه.

ما أوحاه لجهة الاسم رفيق الحريري كاد يتحقق مع ابنه كون الاسم هو سعد الأمر الذي يجعل الناس يستبشرون خيرا ويحقق الابن السعادة التي كانت أحد بنود «أجندة» والده يرد من خلالها للشعب الذي أحبه جمائل الالتفاف حوله رغم أنه لم يأت من بيت سياسي وإنما هو ابن أسرة بسيطة وعصامية، وأنعم الله على الأب بهاء الدين الذي يعمل بستانيا بالأجرة اليومية بنعمة الشكر، وعلى الابن رفيق بنعمة السعي والمثابرة وتحمل المشقة، حاله في ذلك، مع اختلاف الظروف، حال مارغريت ثاتشر الراحلة حديثا التي جاءت إلى قمة السلطة شأنها شأن ونستون تشرشل.. فكانا علامتين بارزتين في التاريخ السياسي لبريطانيا العظمى، من أسرة بسيطة حيث أبوها يملك متجرا صغيرا بالكاد يكفي العائد منه مواجهة متطلبات العيش. ولقد حاول الابن الرئيس سعد أن يكون الصفحة التالية من والده الرئيس وعلى مبدأ «إن الفتى من يقول كان أبي» وليس فقط «من يقول ها أنا ذا» لكن المكائد كانت كثيرة، ولتفادي مفاعيل المكائد ومنها أن يصيبه ما أصاب والده الرئيس الذي يحتضنه تراب بقعة مسجد محمد الأمين إحدى أبرك إنجازاته في قلب أسواق بيروت، فإنه اغترب مضطرا وليس مختارا بين الرياض والبيت الباريسي كاظما الضيق من أنه ليس بين الذين رأوا فيه صورة والده الذي أضيف اسمه إلى قائمة الزعامات المتميزة للعاصمة بيروت بدءا برياض الصلح ثم صائب سلام وسليم الحص.

مع تمام سلام يتكرر الأثر الذي يحدثه في النفس اللبنانية اسم من يترأس الحكومة في الزمن الصعب. وقياسا بما كانت عليه الأحوال قبل ترؤس رفيق الحريري وبين ما هي عليه طوال ثلاث سنوات سبقت تكليف تمام سلام تشكيل الحكومة، يجوز القول إن اسم تمام سلام ابن البيت السياسي العريق يوحي بالطمأنينة وبأن الأمور ستكون «تمام التمام» على نحو القول الشائع. وهذا يعود أيضا إلى أن ما يشبه الإجماع حصل عليه لبنانيا وحيث بدا الأمر وكأنما الرجل موضع رضا الأطراف الفاعلة في ساحة العمل السياسي والحزبي، تتصارع فيما بينها حول التوجهات والسلاح وخلاف ذلك إلا أنها تراه الأفضل للترؤس في هذه المرحلة. بل قد يجوز القول، إن اللبنانيين الحائرين في أمر الأطراف المنقسمة بين طيفين شهيرين هما «14 (آذار)» و «8 آذار» يريدونه ضمنا أن يستحضر شعار والده «لبنان واحد لا لبنانان» ويكون شعاره «آذار واحد لا آذاران» وبذلك تنقشع من سماء لبنان السياسية غيوم الإحباط ويستعيد لبنان أجواء التفاؤل. وعند التأمل في الارتياح الذي قوبل به اختيار تمام سلام لتشكيل حكومة منذ اللحظة الأولى التي أطلق فيها سعد الحريري اسم تمام المنتمي إلى طيف «14 (آذار)» وليس إلى «تيار المستقبل» مع أن في هذا التيار من يتطلع إلى المنصب، نرى أن هذا الارتياح يشبه في بعض مقتضياته ذلك الذي قوبل به اختيار رفيق الحريري من أكثرية اللبنانيين شعبا ونوابا في أكتوبر (تشرين الثاني) 1992. بل إن اللفتة النوعية من جانب المملكة العربية السعودية إزاء اختيار تمام حققت للرجل ترحيبا أكثر وتحفظات أقل. والمألوف وفق قواعد البروتوكول أن الاتصال يتم بالتهنئة بتشكيل الحكومة ونيلها الثقة وليس قبل ذلك، ولكن القيادة السعودية رأت عين الصواب في اختيار تمام سلام عله يحقق في عام 2013 ومن خلال «حكومة المصلحة الوطنية» اقتباسا لروحية مفردات طالما اتسمت بها مفردات التخاطب عند والده، ما تتمناه المملكة ويتطلع إليه الشعب اللبناني ولخصه ذات يوم قبل 21 سنة والده بعبارة «لو ترك اللبنانيون دون التدخل في بلدهم وشؤونهم لكانوا اختنقوا من شدة العناق». وحيث إن المتدخل الأكبر أي النظام البشاري يعاني الآن ويلات احتراب لا سابقة لبشاعته فإن أمام اللبنانيين الذي طالما اكتووا بجمر التدخل السوري وغير السوري في شؤونهم وعلى الأقل بدل العناق إلى درجة الاختناق، أن يلتفوا حول تمام سلام رئيسا لحكومة عابرة من شأن وصولها إلى بر السلامة أن تحقق الحوار الوطني المستعصي إنجازه والمستحب تحقيقه من خلال لقاء الحواريين ورئيسهم ميشال سليمان. وهذا ما رآه اللبنانيون عندما سمعوا أن تمام سلام وهو ما زال الرئيس المكلف المأمول منه تشكيل حكومة الرضا والتراضي تلقى المساندة بالاتصال الهاتفي من الملك عبد الله بن عبد العزيز ومن ولي العهد الأمير سلمان وكان فاتحة اتصالات هاتفية وبرقية وتمنيات خلال لقاءات تركت انطباعا بأن لبنان مثل الفارس يكبو ثم يستأنف امتطاء الصهوة. مع ملاحظة أن الذي يميز لبنان عن غيره من بقية الشقيقات الرئاسية هو أن استيلاد الحكومة لديها يستغرق دقائق (سوريا على سبيل المثال لا الحصر) كأن تتم تسمية الشخص المترئس والوزراء سلفا ويذاع النبأ ومن دون الحاجة إلى المشاورات ولا استمزاج رأي من نالتهم حظوة الترئيس والتوزير بينما العكس تماما في لبنان حيث التكليف يتم بعد مشقة والتأليف بعد مشقات، وحيث للاسم ومسماه أبلغ التأثير في نفوس الناس. عسى ولعل يحالف الوعي بعض المعطلين ويحفظ خير الحافظين وأرحم الراحمين لبنان من تداعيات إفشال لحظة الانفراج الناشئة عن اختيار تمام صائب سلام لتشكيل حكومة لبنانية الولاء عروبية الهوى.