طارق عزيز و«خطأ العقلاء»

TT

في حوار معلومة ظروفه التي أجري فيها من الناحية السياسية ومن الناحية الشخصية للضيف السجين، خرج طارق عزيز ذو المناصب المتعددة زمن صدام حسين، على قناة «العربية» مع محاوره الوزير والناطق السابق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ ضيفا متزن التفكير رصين العقل، وقبل هذا وذاك دبلوماسيا محنكا.

لن يكون هذا الحوار – وحده - كافيا للحكم على مرحلة جاوزت ربع القرن من حكم صدام حسين للعراق ومغامراته الخارجية والحروب التي خاضها بالجيد فيها والسيئ، ولكنه بالتأكيد حوار يلامس مناطق معتمة من تلك الفترة الطويلة.

الحوار مهم من دون شك، وفيه الكثير مما يستدعي التعليق، وأبان فيه الضيف عن وطنية راسخة ووفاء متأصل ووعي عميق، ومع كل الاحترام للمحاور وفريقه المساعد، إلا أنهم لم يكونوا بحجم ذاكرة الرجل كشاهد على التاريخ، ولا بقدر وعيه كمثقف وسياسي ورجل دولة.

هو تحدث بوجع عن العراق، وعن آماله الإصلاحية التي كان يرجوها ويتمناها، وهي بالتأكيد لا تتفق مع آمال محاوريه، كما تحدث كمراقب مستقل عن رؤيته للأوضاع التي آل إليها العراق، وأعطى آراء مباشرة تجاه قيادات العراق الحالية التي بيدها حبل رقبته، فنوري المالكي «ظاهريا» يبدو معتدلا، ومسعود بارزاني «كردي» في العراق.

وقد قدم آراء أخرى جديرة بالاهتمام تجاه التغيرات الكبرى التي شهدها بلده، وبعضها يشابه ما يجري في العالم العربي بشكل عام من بعض الوجوه وفي بعض المسائل، ففي مسألة نقل الديمقراطية الغربية وإنزالها على شعوب غير مهيأة لها كما جرى في أفغانستان والعراق، سأله محاوره عن العراق قائلا إن «الأمم والشعوب دائما في حالة تغيير، الآن انقلب الوضع والحكم ورجاله ما قبل 2003 انتهى، هناك حكم جديد الآن، هذا الحكم الجديد يقول أريد أن أبني البلد بآليات الديمقراطية، كم تتصور أنت برأيك هذا يمكن أن يطبق في العراق؟ يطبق نظام ديمقراطي ليبرالي في العراق؟»، فأجاب: «والله صعبة، لأن هناك عناصر كثيرة، يعني خليطا.. أكرادا، وعربا، وشيعة وسنة، و(قاعدة)، ومسيحيين، يعني (لملوم)»، ومع تأكيده على خلاف نظام صدام عن هذه المرحلة وأن المقارنة غير صحيحة بين الوقتين والنظامين، فقد سأله المحاور: «ألا تتصور أن هذا (اللملوم).. أن الشعب العراقي متنوع؟»، فأجاب: «كثيرا، أكثر من اللازم.. »، فسأله: ألا تعتقد أن هذا النظام الديمقراطي سيجمع هذا «اللملوم» ويقول له: تعال، احكم العراق؟

فأجاب: هذا النظام الحالي متعب.. متعب جدا. فسأله: متعب جدا، ولكن هل يناسب العراق أم لا يناسب العراق؟ فأجاب: صعب، العراق ككل أضعف.

لم يستطع محاوروه أن يفهموا الجدل العميق بين استبداد الفرد كـ«صدام» وطغيان «الديمقراطية» ولم يستوعبوا الجدل حول افتراض مواءمة الديمقراطية لكل بلد ولكل مجتمع في كل زمان ومكان، وأن الخلط بين السياقات الحضارية للأمم والشعوب قد يكون معوقا يدفع الشعوب القهقرى ولا يمنحها التقدم المطلوب، وأن الديمقراطية نفسها هي «نهج ديناميكي يبقى دائما ناقصا وعرضة للانقلاب والإطاحة به» («الديمقراطية»، تشارلز تيللي، ص9).

كما أنهم لم يستحضروا ما كان يسميه الإمام محمد عبده بعد تخليه النهائي والصادر عن وعي وتجربة عن الشأن السياسي بـ«خطأ العقلاء» والذي قال فيه: «ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد».

أمر آخر، هو وعيه بأن أدواء الشعوب المتخلفة حضاريا كالعرقية والطائفية والقبلية ونحوها هي أعمق تأثيرا من شكليات تقوم على التقليد لا على الإبداع، وهو رأي محمد عبده من قبل حيث إنه «وانطلاقا من هذا الفهم للمسألة الديمقراطية فقد عارض، في عهد الخديو إسماعيل، أولئك الذين تمادوا في مطالبتهم بالدستور، معتبرا مثل هذه المطالبة نوعا من التقليد الأعمى للغير».

إنه لأمر مستمر يحتاج لاستمرار الجدل حوله.. ذلك أن كثيرا من المثقفين والسياسيين في العالم العربي كانوا يرون أن نقل الديمقراطية الغربية بعجرها وبجرها هو المخرج الوحيد لكل ما تعاني منه الأمة من تخلف واستبداد، وأن الإصلاح يجب أن يبدأ بالنظام السياسي لا بالمجتمع والثقافة. غير أننا نجد أن عددا من المفكرين الفرنسيين والأوروبيين كانوا قد جادلوا قبل قرنين من الزمان بأن الإصلاح المتدرج هو على الدوام أفضل من الثورات التي تناولوها بنقد عميق (انظر مثلا «الفلسفة السياسية بين القرنين التاسع عشر والعشرين»، غيوم سييبرتان- بلان)، كما نجد أن محمد عبده كان مصرا في أخريات حياته على أن الإصلاح التربوي والتعليمي والاجتماعي المتدرج وطويل الأمد هو أفضل الحلول، وأن الإصلاح يبدأ بالمجتمع والثقافة قبل البنية السياسية، وهو ما يلمح لمثله طارق عزيز في حواره أعلاه.

ربما نظر البعض إلى أن تلك المجادلات قد تجاوزها الزمن في الدول الغربية، وهذا صحيح، ولكننا في العالم العربي لم نتجاوز تلك الأطروحات بعد، وما كان يجادل حوله محمد عبده مجادليه قبل ما يزيد على القرن وربع القرن من الزمان لم يزل هو محل جدل اليوم، وهو جدل ازداد تصاعده وأحقيته بعد الربيع الأصولي في دول الاحتجاجات العربية، فهو بالتالي جدل لصيق بالواقع أكثر من التاريخ.. بالمستقبل أكثر من الماضي.

ليس الجدل النظري وحده هو الذي يجب أن يحضر في مثل هذه المسائل الشائكة والمترابطة بل والتجارب على الأرض، فالكثير منا قد عايش ماذا صنعت الديمقراطية الآتية على ظهر دبابة في أفغانستان والعراق، وما خلفته من نكبات على تلك البلدان، أقله على مستوى الاستقرار السياسي لتلك الدول، كما أننا نعايش اليوم الديمقراطية الهابطة بالبراشوت في دول الربيع الأصولي العربي كتونس ومصر وليبيا، وكيف أن استقرار الفوضى أصبح هو العنوان الأجدر بتوصيف ما آلت إليه الأمور في تلك الدول.

أخيرا، فإن هذه الشهادة على التاريخ التي قدمها طارق عزيز، يجب أن يتم تقصي مثيلاتها والتفتيش عنها والمنافسة على إخراجها للناس من قبل وسائل الإعلام المتعددة، فهي تشكل عدة للباحث والمؤرخ، وسبقا للوسيلة الإعلامية التي تظفر بها.