الترفيه.. سيد الاقتصاد

TT

«ليست صناعة السيارات، ولا الصلب، ولا الخدمات البنكية، بل الترفيه هو من يقود عجلة الاقتصاد في العالم».. بهذه العبارة ابتدأ مايكل وولف كتابه عن اقتصاد الترفيه، الذي حمل إحصائيات ومعلومات مذهلة عن حجم هذا الاقتصاد وتأثيره.

يؤكد وولف أن عنصر الترفيه يتحكم في كل اختيارات الناس؛ من المراكز التجارية التي يتبضعون منها، ومطاعم الوجبات السريعة التي يتناولون فيها غداءهم، ونوع ملابس النوم التي يشترونها لأطفالهم، وخطوط الطيران التي يقررون السفر خلالها.

عامل الترفيه، أو كما سماه «العامل إي» هو القاسم المشترك المؤثر بصورة مباشرة بين كل هذه الاختيارات، وهو ما يفسر أن حجم هذا الاقتصاد الاستهلاكي الكبير في الولايات المتحدة يبلغ 480 مليار دولار، متجاوزا الإنفاق على الملابس والرعاية الصحية. وهو يحتل المرتبة الأولى في الإنفاق الاستهلاكي العالمي تماما كما كانت صناعة الحواسيب تحتل هذه المكانة في العقد الماضي. ويتابع وولف أن «العامل إي» هو مفتاح النجاح للقطاع الخاص من خلال ربطه بكل المنتجات الاستهلاكية، وما عدا ذلك فلن تكون لهذه المنتجات فرصة لمغادرة رفوف المتاجر التجارية.

الترفيه ليس رفاهية، بل احتياج أساسي، لا يقل أهمية عن التعليم والصحة الخدمتين اللتين تأخذان الكثير من اهتمام الحكومات على السواء في الدول النامية والصناعية، وتلعبان دورا كبيرا في تشكيل التوجهات السياسية والاستقرار الاجتماعي.

مع ضغوط العمل والالتزامات والاجتماعية يجد المرء نفسه بحاجة ماسة لأن يوازن ما بين عطائه للوفاء بهذه الالتزامات، وبين ما يأخذه لنفسه لراحتها والترويح عنها. إنها معادلة الخلل الذي قد يصيبها سينسحب بلا شك على أطرافها بشكل أو بآخر، خاصة فئة الشباب التي تحتاج للترفيه بإلحاح، وإن لم تجده متوفرا في المسابقات الرياضية المتعددة والمسارح والمقاهي ودور السينما والمجلات ومدن الألعاب في بلدانها فستبحث عن هذه الوسائل في أي مكان.

والترفيه ثقافة في النهاية، ويعتمد على ما يقبله المجتمع وما يرفضه، لكن حتى المجتمعات المحافظة عليها مهمة إيجاد وسائل ترفيه مناسبة ومتنوعة لأنه يقف على رأس قطاع الخدمات.

ليس بالضرورة أن تتحول المدن في البلدان المحافظة إلى أورلاندو أو لاس فيغاس، أو تصبح أماكن العمل ممتعة كما في ردهات شركة «غوغل» التي يختار موظفوها المبيت فيها عن الذهاب لمنازلهم، لكن من المهم أن نأخذ في اعتبارنا أن الترفيه خاصة العائلي ليس أمرا ثانويا، بل مطلب ملح، والشواهد على ذلك كثيرة، أهمها أن وسيلة الترفيه شبه الوحيدة في هذه البلدان هي السفر، فثلاثة أيام إجازة تجعل منها فرصة لرحلة سفر عائلية لمدن أخرى تقدم الترفيه العائلي الذي ينفس عن الضغوطات ويحقق التوازن النفسي، ليعود المستفيد بعدها قادرا على العطاء وراغبا في العمل.

أماكن العمل المملة تخلق موظفا كسولا متذمرا وناقما، لأنه يشعر ضمنيا بأن العمل يأخذ منه ولا يعطيه، والأسوأ أن ينتقل شعوره هذا تجاه مجتمعه الذي يطالبه بالتزامات لكنه بالمقابل لا يقدم له شيئا.

أذكر أنني في بدايات عملي في مهنة التدريس الجامعي لاحظت أن الطالبات متجهمات الوجوه، عابسات أكثر من الحد المقبول الذي قد تفرضه حرارة الطقس وقلق الدراسة، ثم ما لبثت أن وضعت اللوم على نفسي! ربما أكون أنا الباعث على هذا التجهم، على أنني لا أرى سببا لذلك. اطمأننت حين بثثت ما في نفسي لزميلاتي، للأسف كان الخبر الأسوأ أن هذا هو حال الطالبات عموما في كل الفصول الدراسية، أما لماذا؟.. فالسبب أضحى مفهوما؛ الطالبة تخرج من الجامعة إلى البيت، تؤدي فروضها الدراسية، ثم تنام لتصحو إلى الجامعة. وغني عن التعريف أن ربط التعليم بالترفيه ضعيف إلى حد الفقر، وحينما تأتي الإجازة الأسبوعية فهي كذلك الحيرة الأسبوعية: أين مواطن الترفيه؟.. هذا السؤال المكرر بلا إجابة، لتعود لنا الوجوه العابسة في أول أيام العمل.

لا أبالغ إن قلت إن أثر هذا الوضع السلبي على الحالة المعنوية يمتد إلى الناحية الأمنية. الشباب طاقة هائلة لا يكفيها التعليم النمطي وأماكن العمل التي تخلو من الحيوية ووسائل الترفيه، وهذه الطاقة يجب أن تذهب إلى مكانها الصحيح وإلا بحثت لنفسها عن المتعة والتنفيس في أماكن أخرى قد تتقاطع مع توجهات المجتمع الأخلاقية، والفكرية، والأمنية.