لا تحرقوا هذا التراث!

TT

في لقاء شخصي جرى بيني وبين السيد صادق الركابي النائب في البرلمان العراقي وأحد الشخصيات البارزة في حزب الدعوة، أثرت هذا الموضوع الحساس الذي يعكر العلاقات بين السنّة والشيعة. قال إنه يفهم غضب الغاضبين على الوضع الحالي في العراق، لأنهم اعتادوا حكم هذا البلد منذ قرون، وبيدهم الحول والصول. يصعب عليهم الآن أن يجدوا صولجان الحكم يفلت من أيديهم.

أجبته وقلت: هذا صحيح. سيتطلب التأقلم والتكيف مع الوضع الجديد مدة طويلة. وفي رأيي لا يلومون إلا أنفسهم؛ فقد أساء أهل السلطة السابقين حكم العراق، وتصرفوا بعد سقوط النظام الملكي كشلة من الرعاع يتعاركون على شقفة كعكة، يقتل بعضهم بعضا، وينكلون بأهلهم وذويهم.

ما علينا غير التفكير في الأمر الواقع الآن. عدت لمحاورة السياسي الخبير. أنتم أيضا تتحملون قسطا كبيرا من أزمة الطائفية؛ إنكم تزيدون في حدة معارضة اهل السلطة السابقين لحكمكم. لقد ألفنا كبقية جمهور العرب والمسلمين، بل والعالم أجمع معنا، الإعجاب بما أنجزه الخلفاء الذين حملوا راية الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها في نصف قرن. وأسسوا تلك الإمبراطورية الضاربة في الأرجاء. وأقاموا في ظلها تلك الحضارة العربية المذهلة، التي أصبحت المحطة التي انطلقت منها حضارة الغرب الراهنة. وكلنا يعتز بما قاله وفعله أولئك الخلفاء في مناصرة الضعيف والمحتاج والجائع. وأنتم الآن تهاجمون بعضهم وتشطبون على كل ما أنجزته حكوماتهم؛ كيف تنتظرون منا أن نستسيغ ولايتكم ونسلم بكلامكم ونشطب على كل حضارتنا؟

أجابني السيد الركابي بلهجة من ثنى على كلامي، ثم أضاف: الجمهور مندفع في هذا السياق، ولا تقول كلمة اعتراض عليهم إلا واتهموك بأنك لا تحب الحسين. ذكرتني إجابته بما سمعته من الشيوعيين في عهد قاسم، يوم كانت الأمور بأيديهم واجتاحت العراق الغوغائية والجهالة. ما إن انتقدتهم على ذلك حتى أجابوني بالكلام نفسه؛ قالوا: هذه مشاعر الجماهير! كيف تنتظر منا أن نتحدى مشاعرهم؟!

المفترض في المفكرين أن يكونوا نبراسا لأحزابهم السياسية، وتكون أحزابهم السياسية مدرسة لتنوير الجمهور وقيادته. وتفعل ذلك بإعلاء شأن الكلمة الحقة والنبيلة. هكذا نشأت الأحزاب السياسية الكبرى في التاريخ، وأثمرت وازدهرت وأصبحت المنصة التي بنيت عليها حضارة البلد. لم يتقبل قادتها سفاهة وكلاما نابيا من أحد. على حزبكم، يا سيدي الركابي، أن يقود الجمهور لا أن يقتاد به. ينبغي ردع مثل هذا الكلام الجارح؛ أليس ديننا دينا واحدا وقرآننا قرآنا واحدا ونبينا نبيا واحدا؟ هناك أيضا تراثنا تراث واحد. أتريدون لأولادكم أن ينشأوا من دون اعتزاز بشيء؟ كيف ستضعون البسمة على وجوه أولادكم، أم أراكم لا تريدون لهم غير البكاء والشجو والشعور بالعار.