صراعات اللاجئين في الشرق الأوسط

TT

ظل الشرق الأوسط على مر التاريخ ملتقى مهما للإنسانية تتجمع عنده القارات والثقافات والأفكار. ولطالما كان الناس في حراك دائم في هذا الجزء من العالم، على الرغم من أن هذا لا يكون دائما طواعية. مثل المناطق المضطربة الأخرى، أفرز الشرق الأوسط واستضاف ملايين اللاجئين على مدى العقود الماضية. وبعد مرور عامين على الربيع العربي تلوح في الأفق فترة انتقالية طويلة وصعبة في المنطقة. وتعد أزمات اللاجئين القديمة والجديدة من التحديات المتعددة التي يجب على المنطقة التعامل معها خلال هذه الفترة. وسوف تظل تقاليد الشرق الأوسط الراسخة فيما يتعلق بكرم الضيافة وحسن استقبال الجار المحتاج الجزء الأكثر قوة من هذه العملية. ومن أجل التمسك بهذه التقاليد في مواجهة تغيرات سياسية واجتماعية دقيقة، ستحتاج المنطقة إلى دعم قوي من المجتمع الدولي. سوريا، التي تواجه حاليا واحدة من أكثر الأزمات تعقيدا وخطورة مقارنة بأزمات العالم، لديها تاريخ طويل من الكرم واستضافة المحتاجين للمأوى، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون والعراقيون. وهذا يجعل معاناة السوريين الحالية الأكثر إثارة للشفقة والحسرة.

وأدت إراقة الدماء الرهيبة التي دخلت عامها الثالث الآن إلى نزوح أكثر من 4 ملايين سوري في الداخل، الذين يتجهون نحو الهروب في ظل استمرار القتال وامتداده إلى جميع أنحاء البلاد وانتشار الفوضى والعنف. إن وضعهم في غاية الخطورة، وسيزداد الوضع سوءا كل يوم من دون تقديم المساعدات الإنسانية بلا قيود للمحتاجين. ويزداد عدد الذين لا يرون طريقة للبقاء على قيد الحياة إلا بأن يصبحوا لاجئين في دول أخرى. وبلغ عدد اللاجئين السوريين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 1.3 مليون.

أكثر اللاجئين الذين يستطيعون عبور الحدود يفعلون ذلك تحت جنح الظلام، وعادة لا يحملون معهم سوى ملابسهم، ويخبرونك بقصص مرعبة عن الجحيم الذي هربوا منه. وبمجرد عبورهم إلى الأمان، يسكنون مع أقارب أو أصدقاء لهم أو في مبان عامة أو مخيمات تتسع رقعتها يوما بعد يوم.

وفي واحد من أكثر فصول الشتاء برودة في المنطقة منذ سنوات، كانت الهيئات التي تقدم مساعدات إنسانية تسابق الزمن حتى تسجل الوافدين الجدد وتوفر لهم المأوى والأغطية والسخانات والآنية والطعام والأدوية والمياه النظيفة.

الأطفال هم أكثر من يعاني ولم يتجاوز ما يزيد على نصف اللاجئين السوريين سن الـ18. وفقد كثير منهم آباء أو أشقاء أو أصدقاء وشاهدوا بيوتهم وأحياءهم وهي تقصف ومدارسهم وهي تدمر. ومعدل الصدمة والكرب النفسي بين صغار السن فظيع، وعلى الرغم من بذل هيئات الإغاثة كل ما في وسعها، لا تستطيع تلبية كل احتياجاتهم وعلاج الإصابات والآثار التي تركتها الحرب على نفسية هؤلاء الأطفال. ومزق الصراع حياة مئات الآلاف من صغار السن، وخلّف وراءه جيلا لدولة بأكملها موسوما بالعنف والصدمة لسنوات طويلة مقبلة. ويجب أن ينتهي هذا الصراع، ويجب العثور على حل سياسي لإعادة السلام لسوريا وشعبها، على الرغم من أنه لا يوجد ما يجعل المرء يأمل في ظل السيناريو الحالي أن يأتي مثل هذا اليوم.

على الجانب الآخر، كل ما يمكننا فعله كعاملين في مجال الإغاثة هو الاستمرار في الدعوة إلى مساعدة المدنيين وتوصيل تلك المساعدات بكل الطرق الممكنة. ويظل توصيل المساعدات الإنسانية إلى النازحين بغض النظر عن مكانهم هو التحدي الأكبر داخل سوريا، حتى إنه أكبر من العثور على موارد مالية كافية. ويمثل توصيل المساعدات إلى بعض المناطق داخل سوريا تحديا خطيرا، ولم تتمكن أكثر هيئات الإغاثة من الوصول إلى النازحين إلى شمال سوريا، فضلا عن مناطق أخرى تشهد صراعا محتدما. ولم تتمكن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من بدء توصيل مواد الإغاثة الضرورية لفصل الشتاء إلى بعض مناطق شمال حلب إلا في نهاية شهر يناير (كانون الثاني). ويتطلب الوصول إلى هناك مشاورات مستمرة مع كل أطراف الصراع، والالتزام الصارم بالمبادئ الإنسانية. صحيح أن هناك مخاطر كبيرة، لكن ثمن عدم المحاولة أكبر.

إن الكرم التقليدي الذي تبديه بلدان الشرق الأوسط تجاه اللاجئين يكبدها خسائر باهظة؛ فقد استنزف قدرات البلدان المضيفة التي تتحمل كثيرا من اللاجئين. ولعل الضغط الكبير على موارد المياه في الأردن ما هو إلا مثال واحد يجسد مثل هذه الحقيقة. وازداد عدد السكان في لبنان، هذا البلد الصغير، بفعل تدفق اللاجئين السوريين بنسبة وصلت إلى نحو 10 في المائة. وفي الوقت التي تستضيف فيه جميع دول المنطقة تقريبا أعدادا هائلة من اللاجئين، في ظل مرورها بحالة من عدم الاستقرار السياسي، والتوترات الاجتماعية، والتحديات الاقتصادية، والمخاوف الأمنية، فإن هذه الدول تبقى في حاجة إلى كل الدعم الممكن لتحقيق توازن دقيق بين تلبية احتياجات مجتمعاتها وإيواء مئات الآلاف من اللاجئين.

ومع أن منطقة الشرق الأوسط ليست البقعة المضطربة الوحيدة في العالم، فإنها المنطقة الأبرز. وعلى الرغم من أنه ربما تؤدي هذه الرؤية الواضحة للمنطقة إلى تيسير الاستجابة الإنسانية للأزمات، بفضل التمويلات الإضافية وفرص المساعدة التي غالبا ما ترافق اهتمام وسائل الإعلام، فلم يسفر هذا عن أي مساهمة في التوصل إلى حلول حقيقية وجادة للصراعات الحالية حتى هذه اللحظة. ولن تكون هذه الحلول إنسانية أو عسكرية، بل يجب أن تكون سياسية.

وفي هذه اللحظة، تتركز جميع الأنظار على الأزمة السورية وشعبها واللاجئين. ونظرا للتوقعات القاتمة الحالية لمصير سوريا، هناك خطر حقيقي متمثل في احتمال أن تضاف هذه الأزمة الجديدة إلى قائمة قضايا الإبعاد والنفي التي طال أمدها، وما زالت تعاني منهما المنطقة. وهنا يجب على المجتمع الدولي أن يبذل كل ما في وسعه على المستوى السياسي لمنع هذا الأمر من الحدوث.

ويمثل النزوح الواسع النطاق مبعثا للقلق بالنسبة لاستقرار المنطقة بوجه عام، حيث إن البلدان التي تستقبل النازحين بحاجة إلى دعم دولي قوي حتى تتمكن من تحقيق الاستقرار في اقتصاداتها، وتستطيع حكوماتها الإبقاء على سياسة فتح الحدود، التي تعد أمرا أساسيا لضمان حماية اللاجئين. وفي الوقت الذي أصبحت فيه المنطقة أكبر مصدر للتهجير في العالم وبات السلام والاستقرار بها محيرا بالنسبة لكثيرين، ينبغي أن تحدث كثير من التغيرات خلال السنوات المقبلة لمساعدة الحكومات والمجتمعات على مواجهة هذه التحديات. وهناك حاجة إلى ترتيبات شاملة سياسيا، تشمل النازحين، من أجل تقديم حلول مستدامة لمن هجّروا من ديارهم.

ولكي يتحقق هذا الهدف، ينبغي أن يضطلع كثير من منظمات المجتمع المدني الصاعدة في جميع بلدان المنطقة بدور مهم ينبغي دعمه بقوة. كذلك يجب على المجتمع الدولي أن يقدم ما هو أكثر من المساعدات الإنسانية لضحايا الحرب، فيجب عليه تقديم دعم سياسي واقتصادي حقيقي خلال الفترة الانتقالية المقبلة الطويلة والصعبة جدا.

* أنطونيو جوتيريس المفوض السامي لشؤون اللاجئين، بالاتفاق مع مجلة «كايرو ريفيو أوف غلوبال آفيرز»