صاحب الحمامة!

TT

جرت العادة على أن يتلقى المرء كتابا واحدا يحمل توقيع صاحبه، على سبيل الهدية، ولكن شاء حظي أن أتلقى من الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الثقافة والتراث والفنون، في قطر، 21 كتابا مرة واحدة!

الكتب ليست نثرية، ولكنها دواوين شعر لـ12 شاعرا سودانيا، صدرت في الدوحة العام قبل الماضي، في إطار ما كانت العاصمة القطرية قد التزمت به، من نشاط ثقافي عربي، وقت أن جرى اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 0102.

في واحد من دواوين المجموعة، قصة موجزة من تراثنا، أظن أنها تصلح لأن تصور حال العرب هذه الأيام، على أكمل ما يكون.

ولكن.. قبل أن أعرض هذه القصة، أريد فقط أن أقول، إن الشعراء الـ21 هم: محمد المهدي المجذوب، د. محيي الدين صابر، د. سعد الدين فوزي، محمد عثمان كجراي، الجيلي صلاح الدين، فضل الحاج علي، مصطفى طيب الأسماء، أبو القاسم عثمان، الشيخ عثمان محمد أونسة، محمد عثمان عبد الرحيم، محمد محمد علي، وأخيرا حسين محمد حمدنا الله.

أما الأخير فإن لديوانه حكاية طريفة، ففي يوم ما، التقى الدكتور الكواري مع إبراهيم حسين حمدنا الله، مدير البرنامج العربي لمتطوعي الأمم المتحدة، الذي همس في أذن الوزير الكواري، بأن والده في السودان كان قد انتهى من ديوان شعر، وأن هذا الديوان لا يجد من يتولى إخراجه إلى النور، وقد وعده الوزير خيرا، ولم يكن يعرف وهو يعده، أن هذه المجموعة التي طبعتها الوزارة، تضم هذا الديوان بينها، وبينما كان «إبراهيم» يتصفح دواوين المجموعة، لم يكد يصدق نفسه، إذ اكتشف أن ديوان أبيه، بين دواوينها، فلم تسعه الدنيا في حينه، بعد أن أصبح ديوان شعر والده متاحا للقارئ، على امتداد عواصم العرب!

أعجبني أن يقول السموأل خلف الله القريش، وزير الثقافة السوداني، وهو يقدم لدواوين المجموعة، ما يلي: لا غرو، أن الأدب عنصر إلهام للشعوب، فهو عصارة القلب، وذوب الروح، وفي سنة أربع وثلاثين نشرت «رسالة» الزيات على صفحاتها الرصينة، لشاعر السودان العبقري التيجاني يوسف بشي: لن يكون مثل الأدب يصوغ الأمم على أسلوب واحد، ويصنع عقلية واحدة، ويقيم أساس وحدتها على الروح، وبناء مجتمعها على العاطفة، ودعامة ألفتها على الجمال، وقاعدة إخائها على الصدق، وصرح كيانها على يقظة الشعور، فلا يتزلزل، ولا يضطرب، ولن يكون مثل الأدب يوحد بين مشاعر الأمم، ويعين على توحيد المنافع، ويحقق من حلم الوحدة، بما فيه من صور الفكر، وجمال الفنون.

بين شعراء المجموعة، أسماء تجاوزت شهرة أصحابها حدود السودان، ومنها - مثلا - الدكتور سعد الدين فوزي، الذي كان أول أكاديمي اقتصادي سوداني، يحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، من جامعة أكسفورد، ولا بد أن الذين زاروا السودان يعرفون أن له شارعا يحمل اسمه في الخرطوم، وأن له تمثالا من البرونز في مدخل كلية الاقتصاد التي أسسها هناك!

وإلى جوار الدكتور فوزي، كانت هناك مفاجأة لي، حين اكتشفت، أن من بين الشعراء الـ21، يقف اسم الدكتور محيي الدين صابر، شامخا، بديوان يحمل عنوان: «من التراب».

سبب المفاجأة أني عرفت الدكتور صابر، يرحمه الله، لسنوات في القاهرة، وقد زرته مرارا في بيته في حي الزمالك، حيث كان يقيم، وأهداني كتابا قيما من كتبه، لا أزال أحتفظ به، وعليه إهداء كريم بيده، ورغم أن الرجل كان برلمانيا، وكان وزيرا للتعليم في بلاده، وكان مديرا للمنظمة العربية للتربية، والثقافة، والعلوم، التي نعرفها بأنها «اليونيسكو العربي» ورغم.. ورغم.. إلا أنه كان يبدو لي، في كل مرة كنت أراه فيها، وكأنه راهب في معبد، ولا أعرف لماذا كنت كلما رأيته، تذكرت الطيب صالح؟ وكنت كلما رأيت الطيب، في ميريديان القاهرة، حيث كان ينزل دائما، تذكرت محيي الدين صابر، ففيهما، عندي، رائحة ذكية واحدة!

الدواوين الـ21، مجتمعة، تعطيك فكرة واسعة عن هموم السودان، كوطن، في مرايا بعض أبنائه، على مدى ما يقرب من قرن كامل من الزمان، وخصوصا هم الاستقلال، ثم هم الرغبة في اللحاق بالعالم المتطور.

أعود إلى ديوان «غارة وغروب» لمحمد المهدي المجذوب، ففيه قصيدة عنوانها «صاحب الحمامة» أبدعها الشاعر في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 4491 مستوحيا إياها من قصة تقول: قال الفقيه أحمد بن جلال الدين لحفيده الطفل: سمعت يا ولدي بصاحب الحمامة؟! قال حفيده: لا.. فمن هو؟!

قال: دخل فقير خلوته يتعبد، وحطت حمامة بين يديه، فنظر إليها وحدث نفسه: هذه هي الدنيا في قبضة يدي.. ما أيسر أن أمسكها، ووضع سبحته، وأهوى بيده، فطارت الحمامة، وسقطت على عتبة خلوته، ونظرت إليه، قال: ما أقربها! وحين أهوى يمسكها طارت، وراحت تحط وتطير، وهو يتبعها، حتى خرج من دينه ودنياه.. نعوذ بالله من ذلك.. هذا هو صاحب الحمامة!

رحت أقرأ الحكاية، ثم أعيد قراءتها، ولأمر ما، أحسست أنها تصور حالنا، نحن العرب، بصدق كبير، فنحن صاحب الحمامة، الذي لا حقق مبادئ دينه، في حياته، ولا فاز بدنياه!