الزعيم سجينا في مسقطه

TT

ذكرت الصحف أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يمضي الوقت في الصلاة والإبحار في الإنترنت. ويخبرني بعض الأصدقاء أن الرجل يقابل الناس، ويؤانسهم، وليس قليل الكلام، بعكس ما كان عليه أيام قصر قرطاج، حيث كانت طباع رئيس الشرطة تغلب على ما هو متوقع من رئيس الدولة.

فالرجل قضم حريات التونسيين لكنه لم يقضم يومياتهم، ولا ظهر في عهده الصامت شيء يسمى «جهاد المناكحة» الذي استنكره مفتي تونس، وقال إنه ليس أكثر من تجارة أجساد ساقطة. لا أدري ما الكتب التي يقرأها الرئيس بن علي، لكن ثمة كتابا واجب القراءة هو «مذكرات والي المنستير»، محمد الحبيب براهم، عن السنوات الصغيرة من حياة الحبيب بورقيبة في إقامته الجبرية.

يقول براهم إن «الزعيم» كان ممنوعا من الخروج أو التجول إلا في حديقة الدار. في الظاهر، كان السبب هو الحرص، وفي الباطن كان السبب هو الحصار. كل شيء كان محدودا: الزيارات، الاستقبالات، والنزهات. لكن ذات يوم يحصل والي المنستير من الرئاسة على إذن للزعيم بالقيام بجولة في مسقط رأسه. مسقط رأس الصبي الفقير الذي قاد تونس إلى الاستقلال. وإذ يتذكر سنوات النضال، يقول الوالي: «لست هينا يا بني، لقد هزمت فرنسا، تعلمت السباحة في هذه المياه».

وإذ يهل فصل الربيع ويخرج إلى الحديقة، يقول الوالي للزعيم: «إنه الربيع سيدي الرئيس، فالطقس ممتاز والحياة زاخرة»، لكن الزعيم يقاطعه: «مناخ المنستير دائما هكذا؛ شمس وبحر وطبيعة جميلة». وذات يوم يرسل إليه بن علي باقة من الزهر في أحد أعياد ميلاده الطويلة. يطلب من الوالي أن يقرأ عليه البطاقة المرفقة، فيذكر أنها موقّعة باسم «ابنكم» فلان. فيشير الحبيب إلى الحبيب بورقيبة الابن، ويقول في زفرة: «هذا هو ابني. هذا هو ابني».

كان الحبيب الابن هو الابن الوحيد من الزوجة الأولى التي يروي الزعيم حكايتها هكذا: «باريس والبرد اللادع وحكمة الأقدار. باردة باريس. أرتعش كلما تذكرت صقيعها، وثمة ليلة لن أنسى بردها؛ فأنا أقطن غرفة في الطابق الأخير ليس فيها تدفئة وبخسة الإيجار. لم أستطع النوم. تقلبت، تكومت، لملمت نفسي وكدت أتجمد. تيبست عروقي فخرجت هاربا وطرقت باب الشقة التي تحت، وقلت لهم: أنا الحبيب بورقيبة ابن علي بورقيبة أمين الفلاحة في المنستير، وألتمس البقاء عندكم للدفء. رحبوا بي. وكانت تلك أسرة ماتيلد التي سوف تصبح زوجتي؛ مفيدة بورقيبة».

المشهد الأكثر درامية في الكتاب عندما يتطلع بورقيبة بالوالي وهما يحضران برنامجا تلفزيونيا، ويسأله: «هل أشعرك سفيرنا في باريس بموعد وصول وسيلة إلى مطار منستير؟»، صمت قليلا ثم أردف: «لقد أخبرني سي الهادي المبروك أن فترة علاجها قد انتهت، وأنا في انتظارها». لم يجب الوالي. فالمبروك لم يعد سفيرا منذ زمن، ووسيلة بن عمار مطلقة الزعيم منذ سنوات. لكن بورقيبة ألح في الذهاب إلى المطار. وبعد أيام بُلّغت تونس وفاة الوسيلة، حبه الأكبر.