حرب العراق في ذكراها العاشرة.. عندما يتحول «الصمت» إلى «قسوة»

TT

تبدو الخيارات عقيمة عندما يتم الحديث اليوم عن مرور عشر سنوات على إعلان الولايات المتحدة ما بات يسمى «حرب تحرير العراق».. وعقم الخيارات يرتبط بأنها عادة ما تطرح بأثر رجعي، وبناء على افتراضات تحاكم قرار الحرب وداعميه، بصورة كلية وتعميمية تعيد إنتاج التضليل الذي حكم القضية العراقية منذ نصف قرن.

ومع كم الأخطاء والمراجعات عبر العالم لنتائج هذه الحرب، بدا السؤال المركزي غائبا، ومفاده: «ماذا لو لم تشن الولايات المتحدة الحرب للإطاحة بنظام صدام حسين؟».

هذا تساؤل افتراضي بالطبع، لكنه يرتبط بأي تقييم موضوعي لقرار حرب العراق والنتائج التي ترتبت عليه.

من أوائل من طرحوا هذا السؤال، كان المفكر العراقي كنعان مكية، وربما كان كتابه «جمهورية الخوف» الوثيقة الأكثر اعتبارا في بلورة أي إجابات لاحقة عن قرار الحرب، ليس من جهة تحول الكتاب الذي طرحه مكية أول مرة عام 1989 باسم مستعار هو «سمير خليل» إلى أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة وأوروبا بعد احتلال العراق للكويت فقط، بل في إسهامه في صوغ رؤية شعبية وسياسية دولية حول طبيعة النظام الاستبدادي في العراق وآليات عمله طوال فترة حكمه والمجازر التي صاحبت هذا الحكم.

ومن باب المفارقة فقط، أن تتوجه في الذكرى العاشرة لحرب العراق سهام الانتقاد إلى مكية نفسه، باعتباره من الشخصيات التي دعمت الحرب وحثت عليها.

ويبدو أنه لم يسأل أحد: «هل كان على مكية الصمت على مأساة شعبه؟».. هل ما زال بعض المثقفين العرب يقترحون هذا الحل؟ والإجابة وحدها هي الكفيلة بتحديد موقف هذا الرجل ومن خلفه كل العراقيين الذين وإن عارضوا في وقت لاحق أسلوب تعامل القوات الأميركية والنخب السياسية العراقية مع مرحلة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين، إلا إنهم لم يدافعوا عن هذا النظام ولم يتحسروا على سقوطه.

ربما تغيب على كثير من المتصدين اليوم لقرار الحرب الأميركي، بعض الحسابات الموضوعية.. فقرار الحرب بقصد إسقاط نظام مستبد، مختلف عن قرار إدارة الدولة تحت الاحتلال، ويمكن تلمس هذا الفرق بين التجربة العراقية والتجربة الليبية، علما بأن النظامين؛ الليبي والعراقي، لم يختلفا في سلوكهما الإجرامي ولا في طريقة سقوطهما عبر تدخل خارجي.

وهنا يمكن أن نتساءل: «لماذا يكون استدعاء تدخل خارجي في ليبيا أو سوريا مهمة أخلاقية، ويكون غير أخلاقي عندما يتعلق الأمر بالعراق؟».

والإجابة ربما تكون بالمعادلة التالية: «استخدام معيار الدفاع عن حقوق الإنسان وإرادة الشعوب في تمرير خيار إسقاط نظام حكم بناء على إجماع دولي، يختلف عن اتخاذ القرار عبر استدعاء منظومة من المبررات؛ ومنها أسلحة الدمار الشامل، التي ثبت لاحقا أنها غير صحيحة».

وبالعودة إلى دور مكية الذي ساهم في صوغ غطاء أخلاقي لإسقاط نظام صدام حسين عبر فضح ممارسات ذلك النظام، نجد أن القرار الأميركي لخوض الحرب استثمر المزاج الأميركي والغربي العام الذي ساهم مكية في تكريسه، ليس لتأسيس منظومة مبررات موضوعية وصادقة كافية لتمرير قرار الحرب، كما كانت كافية في النسخة الليبية وهي كافية اليوم في النسخة السورية، وإنما لتمرير طروحات امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل.

المتوقع أن تتم الإجابة عن هذا الطرح بالقول إن الوضع في ليبيا وسوريا وأيضا في مصر واليمن وتونس ارتبط بحراك شعبي واجهته تلك الأنظمة بالقمع، واستدعى تدخلا دوليا سياسيا أو عسكريا لنصرة شعوب الربيع العربي.

ويغيب عن هذه الرؤية أن الشعب العراقي شهد حراكات الربيع العربي مرارا وتكرارا، ودفع ثمنا باهظا لهذه التحركات الشعبية وصلت، كما في نسخة الثورة الكردية أواخر الثمانينات، إلى استخدام النظام الأسلحة الكيماوية لإبادة مئات الألوف من الأكراد، ومثل ذلك حصل في انتفاضة الشيعة في جنوب العراق بداية التسعينات، عندما وجد السكان أن العالم قد تخلى عن دعمهم أمام الماكينة العسكرية القاسية للنظام.

لم يكن الشعب العراقي صامتا يوما، لكنه كان يواجه على الدوام نظاما استثنائيا في مستوى إدارته لعمليات القمع والقتل الممنهجة.

هل كان كنعان مكية ومن خلفه كثير من العراقيين سيدعمون الحرب عام 2003 لو قدر للزمن أن يعود إلى الوراء؟

على الأرجح سيفعل ذلك، فليس من المنطقي ألا ينبري أصحاب المسؤولية التاريخية أمام شعوبهم لمواجهة نظام مستبد كنظام صدام حسين.

وبالإشارة إلى الانتقادات التي يتم سماعها بشكل واضح على لسان من يحاكم قرار الحرب، يبدو أن الجميع بدأ ينسى الحقيقة التي مفادها أن «الجيش الأميركي لم يجد بالفعل أسلحة دمار شامل في العراق، لكنه وجد شعبا محطما رزح لعقود تحت ظل قمع غير متصور، بعيدا عن التعاطف الدولي».

ربما من حق من يحاكم التاريخ اليوم أن يلوم كل من ساهم في تمرير أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، لكن ليس من حقه أبدا أن يلوم من كشف معاناة شعبه أمام الرأي العام الدولي وفضح أشد الممارسات القمعية بشاعة وتطرفا يمكن أن يستخدمها نظام ضد المدنيين العزل.

والخلط بين القضيتين يبدو أحيانا كأنه مقصود، وهو ارتداد لتوجهات فكرية ما زالت لا ترى فارقا بين القضيتين، تماما كما هي الحال مع انتقاد مكية لسكوت إدوارد سعيد الذي يعده كثيرون إحدى أيقونات الثقافة العربية والمفكر المدلل لدى اليسار العالمي.

بالطبع ليس إدوارد سعيد بالضرورة هو المحرك لمحاكمات الحرب على أسس مطعون في دقتها، بل الثقافة التي ما زالت، بعد كل أحداث الربيع العربي، ترى أن دعم مثقفين لإنقاذ شعوبهم من استبداد الديكتاتوريات، فعل غير أخلاقي!

والمفارقة أن الفعل يبدو أخلاقيا جدا، عندما يتعلق الأمر بتجارب بعيدة عن تجربة الشعب العراقي!

لا يمكن الركون إلى تلك الأحكام المطلقة التي يتبناها هذا التيار، مثلما لا يمكن الركون إلى تيار آخر يرى أن عشر سنوات من احتلال العراق كانت إيجابية على مستوى مستقبل هذا البلد.

وقد يكون كنعان مكية مثالا دائما لتلمس الفرق بين الاتجاهين، فدعمه لقرار إسقاط نظام صدام حسين لم يمنع توجيهه انتقادات لاذعة ليس للسياسات الأميركية في إدارة البلاد بعد إعلان الولايات المتحدة سلطة احتلال رسمية، وإنما بالدرجة الأساس إلى النخب السياسية العراقية التي لم تتعامل بمسؤولية مع مستوى الحدث وانخرطت في تحقيق مصالح ذاتية وفئوية كانت تكلفتها باهظة.

ففي كتابه «القسوة والصمت» الذي صدر عام 1992، وضع مكية أساسا لما يمكن أن يكون عليه سيناريو العراق بعد صدام حسين، واعتمد بالدرجة الأساس على التحذير من أن عدم تعامل الغالبية المكوناتية في العراق مع مرحلة ما بعد الحرب ومع الأطراف الأخرى في العراق على أساس أن تكون أخا أكبر راعيا للمصالح وللوحدة الوطنية، سيقود البلاد إلى أن تتحول إلى ساحة للمشاحنات والمناكفات السياسية المرعبة التي قد تنتج عنفا جديدا.

وفي العام نفسه، كتب كنعان مكية مع عدد من المثقفين العراقيين ما عرف بـ«ميثاق 92» الذي كان يطالب بعراق خال من العسكر، يكون معياره الديمقراطية وحقوق الإنسان وضمان حق الأقليات في المواطنة الكاملة، وذلك الإعلان، تماما، كمطالبات «القسوة والصمت».. لم تدخل أبدا في أي سياقات للتطبيق العملي بعد عام 2003.

قد تبدو مسؤولية المثقف العربي، وأيضا الغربي، اليوم معقدة ومرتبكة، في قراءة خلفيات الحرب على العراق، وقد يقع في التعميم نفسه الذي يسوق إليه مجموعة من المثقفين الذين لم يدينوا في أي يوم ممارسات الأنظمة المستبدة، قدر اهتمامهم بالدوافع الأخلاقية لقرار الحرب على العراق، وقد يقع المثقف في حيرة من كون بعض الأصوات التي تدين تلك الحرب تدافع عن حرب مماثلة في سوريا كما دافعت عن حرب ليبيا.

ذلك الخلط والاستعماء الثقافي وصفه مكية نفسه في «القسوة والصمت» بقوله إن «القسوة مسألة خاصة وشخصية، في حين الصمت مسألة اجتماعية وسياسية.. إنه ينجم عن عدد من الأفراد يعملون بوعي لمواجهة ميراث القسوة.. هذه الأعمال الوحشية كانت تجري في عراق صدام.. المثقفون العرب والعراقيون التزموا الصمت».

* رئيس تحرير مجلة «الأسبوعية » العراقية