الأطباء وتكاليف ترهق المرضى والمستشفى

TT

العملية العلاجية، أو معالجة المريض، هي بالفعل قمة الهرم بالنسبة لبناء منظومة تقديم الرعاية الصحية. وحينما يقف الأطباء والمرضى على قمة ذلك الهرم، وهم لا يعلمون مقدار ارتفاعه، فإنهم قد لا يتصرفون بوعي واقعي ووفق المتطلبات التي توازن بين «الفعل» و«تكاليف الفعل». ولكن حينما ينظر الطبيب إلى أسفل الهرم ويرى مقدار ارتفاعه فإنه لا محالة سيتصرف بـ«طريقة أخرى» يقدر فيها «الفعل» و«تكاليف الفعل».

دعونا نراجع نتائج هذه الدراسة الصادرة عن الباحثين من مستشفى جامعة جون هوبكنز في بالتيمور بالولايات المتحدة التي نشرتها مجلة «جاما للطب الباطني» (JAMA Internal Medicine) في عدد 15 أبريل (نيسان) الحالي، وفيها قام الباحثون بفحص تأثيرات إخبار الأطباء بالتكاليف المادية لإجراء أنواع بسيطة من الفحوصات والتحاليل للمرضى، وما هي تبعات هذه المعرفة في إقبال الأطباء على طلب إجرائها للمرضى.

لاحظ الباحثون في نتائج الدراسة أن الأطباء حينما يعلمون ما يطلبه المستشفى من المرضى في المقابل المادي، فإن الأطباء يقللون بشكل واضح من طلباتهم لإجراء الفحوصات تلك ويبحثون عن فحوصات أقل كلفة مادية، أي بدائل أرخص ثمنا، لأداء غرض المساعدة في تشخيص الأمراض أو متابعة معالجتها لدى المرضى.

وقال الباحثون إن الممارسة الحالية في غالبية مستشفيات العالم، وخصوصا الحكومية أو التي تشملها أنظمة التأمين الصحي، هي أن الأطباء والمرضى بعيدون عن معرفة «أسعار» التحاليل والفحوصات الطبية و«أثمان» الأدوية ومقدار «فاتورة» إجراء العمليات الجراحية وغيرها، وإن إبقاء الأطباء والمرضى في ظلام عدم رؤية التكاليف المادية تلك يرهق كاهل المتطلبات المادية وميزانيات تقديم الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.

وفي دراستهم الحديثة، قام الباحثون بدراسة متابعة استمرت ستة أشهر لطلبات الأطباء في مستشفى جونز هوبكنز لإجراء 62 نوعا من التحاليل الطبية التي غالبا ما يتكرر إجراؤها للمرضى بطلب من الأطباء. وقسم الباحثون الأطباء إلى مجموعتين، مجموعة تم إخبارها بالتكاليف المادية لتلك الأنواع من الفحوصات، ومجموعة تم تركها دون معرفة بتلك الحقائق.

ولاحظ الأطباء أن طلبات إجراء الفحوصات انخفضت بنسبة نحو 10%، في مجموعة الأطباء العارفين بالتكاليف المادية، وهو ما أدى إلى توفير نحو نصف مليون دولار في فترة الأشهر الستة، وفي ذلك المستشفى وحده، ولدى المجموعة القليلة من أطبائه فقط. وفي المقابل، لم تستمر «الحال» على ما هي عليه لدى مجموعة الأطباء «غير العارفين» بالتكاليف المادية، بل ارتفع بمقدار 6%.

وعلق الدكتور لينوارد فيلدمان، طبيب الباطنية والباحث الرئيس في الدراسة، بالقول: «ثمة هدر كبير في ميدان الطب بسبب عدم الإحساس بمقدار التكاليف المادية». واستطرد بالقول: «نحن بالعموم كأطباء لا نتخذ القرارات في المعالجة الطبية بناء على موازنة بين (الكلفة والفائدة)، ولا بناء على ما هو (ضروري جدا) فقط، ولكن فيما يبدو أن معرفتنا بالكلفة المادية سيجعلنا (نفكر أكثر) حول ما نعتقد أن إجراءها ضروري لمعالجة المريض وتحسين مستوى صحته». وأضاف قائلا: «والأدلة التي نقدمها في نتائج هذه الدراسة تطرح أن إفهام الأطباء للكلفة المادية هو وسيلة سهلة لتصحيح السلوك الطبي، وفي نهاية الأمر، طلب الأطباء تحاليل أقل ووفرنا المال وحافظنا على المرضى ضد التعرض لآلام وفحوصات لا طائلة من ورائها».

والحقيقة أن الأمر لن تقتصر فائدته على ما ذكرته نتائج الدراسة في خفض التكاليف المادية المباشرة، بل تتعداه إلى تخفيف إرهاق أقسام المختبرات والأشعة وغيرها بتلك الطلبات التي لا جدوى منها، وتسهيل إجرائهم للفحوصات المهمة للمرضى المحتاجين دون تأخير بسبب الالتزام بإجراء فحوصات لا داعي لها لمرضى آخرين. وأيضا استفادة أفضل من وقت الطبيب بدلا من هدره في إجراء فحوصات لا داعي لها ومتابعة لقراء وفهم نتائجها. ولذا فإن الهدر المادي هو قمة جبل الثلج، وإن تبعات عدم المعالجة وفق أسس صحيحة وسليمة وبناء على احتياج المريض سترهق الكثير من مرافق المستشفى والعاملين فيه، وستحرم كثيرا من المرضى الآخرين من تلقي المعالجة الطبية التي هم في أمس الحاجة إليها.

استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]