من أين (ينبع) الإرهاب؟: خطيئة (حصره) في المسلمين

TT

كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم وقعت واقعة 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، طبعا ليس من حيث نوع الحدث وحجمه وخسائره، ولكن من حيث التفسير السياسي والفكري للحدث، ومن حيث التناول الإعلامي الموسع الذي ربط - عمدا أو غفلة أو جهالة - بين الإرهاب وبين الإسلام نفسه، وكذلك بين الإرهاب وبين المسلمين كأمة. في حادثة بوسطن: تأهب إعلام معين لاستئناف ذلك الربط الخبيث أو الجهول بين الإرهاب وبين المسلمين بعامة، وذلك بعد خفوت صوت اتهام (سعوديين) بفعلة بوسطن، وهو خفوت يشبه صوت نقيق ضفدعة أبعده عن الأذن أزيز طائرة وهو أزيز تمثل في انكشاف الحقائق والمعلومات والوقائع.

لكن بعد ذلك: اتجه الاتهام إلى (المسلمين) وفق لوازم عجيبة: فالفاعل من الشيشان، وهو بلد مسلم بحكم رجحان عدد سكانه. ولذا فالفاعل (مثل) الإسلام والمسلمين حين قام بفعلته تلك.. وكأن هواة اتهام المسلمين بكل جريمة تقع على الأرض من هذا النوع، كأنهم يقولون: لنفترض أن السعوديين براء مما جرى، ولكن الفاعل - على كل حال - مسلم، وهذا هو بيت القصيد. فالسعودي يتهم لأنه مسلم أيضا!!

ومثل هذا الجنون الإعلامي حصل عقيب أحداث 11 سبتمبر 2001. فالآلة الإعلامية الضخمة شغلت - يومئذ - بأقصى معدلاتها لتقول للعالم في إلحاح - وبتكرار لا تنويع فيه - لقد ثبت أن الفاعلين مسلمون.. ثم استخدمت فلسفة (اللوازم) أيضا بتوسع ودأب، بمعنى: أن المسلمين أنفسهم إنما هم (ضحايا) لعقيدة ما إن يصدق في اعتناقها أحد حتى يصبح إرهابيا بالضرورة!!.. والكلمات العشر الأخيرة هي - بالضبط - خلاصة تقرير استراتيجي إسرائيلي أعد قبل 11 سبتمبر بسنوات عشر، إذ قال ذلك التقرير: ((من السطحية تركيز الاتهام بالإرهاب في منظومات من الشباب المسلم، بل يتوجب معالجة القضية في العمق فهؤلاء الشباب مجرد ضحايا لعقيدة يؤدي الصدق في اعتناقها إلى العنف الدموي ضد الأغيار، أيا كان هؤلاء الأغيار. ولذلك يتوجب السعي إلى عقد إجماع إقليمي وعالمي ضد الإسلام نفسه)).

ومن الغريب: أن أناسا مسلمين يحملون هذه القناعة، ولذا فإنه يظهر أنه قد حان حين الدعوة إلى تحالف عقلاء العالم والتعاون معهم، في هذه القضية، وفي قضايا أخرى.. ففي عالمنا هذا عقلاء من كل دين وجنس ينظرون إلى مثل هذه القضايا نظرة تتميز بالموضوعية والعدالة والنزاهة.. مثلا: يقول فريد هاليداي - في كتابه: الإسلام والغرب: خرافة المواجهة: ((قضية الإرهاب ارتبطت على نطاق واسع في الذهن العام الغربي بالشرق الأوسط وبالمسلمين. والحقيقة أن هذه الأوصاف من الأعمال الإرهابية ارتكبها متطرفون من آيديولوجيات شتى. والإرهاب بوصفه عملا إجراميا تمارسه مجموعة سياسية مدنية ضد مدنيين مسالمين، إنما هو ظاهرة عامة، وليست خاصة بالشرق الأوسط. فقد حصلت أعمال من هذا القبيل على امتداد شطر كبير من التاريخ المكتوب، وكانت جزءا من الحياة السياسية في بلدان وثقافات كثيرة في القرن العشرين. وأول الإرهابيين في السياسة الحديثة لم يكونوا من الشرق الأوسط، بل كانوا فوضويين من روسيا وجمهوريين آيرلنديين وقوميين أرمن وهندوسا، تلاهم يهود صهيونيون وقبارصة ويونانيون وآخرون غيرهم في فترة ما بعد 1945. والإرهاب الحديث لم ينشأ في الشرق الأوسط ولا بين المسلمين، ولا كان هؤلاء من منفذيه)) ص41 - 42.

إن الأمر جد لا هزل فيه. فاتهام أمة بكاملها بأنها إرهابية بمقتضى عقيدتها ومصادر تشريعها، هذا الاتهام ليس (نكتة)، بل هو عملية (اغتيال) لأمة، واغتيال لدين الإسلام. ومن هنا تعين التوسع في نقض هذا الاتهام ورده.

ومدا لكلام فريد هاليداي نقول: إن أوروبا هي (حقل الشوك الأعظم) الذي نبت فيه الإرهاب واستغلظ وملأ الأرض رعبا ودما.. يقول الكاتب البريطاني جون غرامي: ((الاتجاه إلى أن الإسلام هو مصدر الإرهاب هو اتجاه غربي مزيف للحقائق، ذلك أن فكرة تغيير العالم عن طريق الإرهاب ليست فكرة منبثقة من الإسلام، بل على العكس هي فكرة غربية. فمنذ اليعقوبيين، ومرورا بلينين وستالين إلى منظمة بادر ماينوف ظل الغرب المعاصر يضخ آيديولوجيات، ويولد حركات تقول باستخدام العنف من أجل عالم أفضل)).. وهذه الشهادة مؤيدة ومؤصلة بشهادة مؤرخ أوروبي مشهور بدقته وأمانته العلمية في تسجيل الوقائع وتحليلها وهو هربرت فشر. ولقد قال - في كتابه: تاريخ أوروبا في العصر الحديث: ((في فرنسا أدى نشوب الحرب عام 1792 إلى تكوين حكومة الإرهاب. إن ذكرى دانتون غارقة في الدماء والعنف، ولن يغفر له: إغضاؤه عن مذابح سبتمبر عام 1792 المروعة. لقد كان الإرهاب في نظر دانتون، كما هو في نظر جميع رجال السياسة: أداة ضرورية من أدوات السياسة والحكم. وهكذا كان دانتون مستعدا لأن يستخدم أي تدبير إرهابي يراه ضروريا لإلقاء الرعب في قلوب أعداء الثورة)).

وبالانتقال من الإجمال إلى التفصيل، يتضح أن أوروبا كانت المصدر الأعظم للعنف الدامي، والإرهاب المجنون في القرن العشرين بالذات. فالحركات الكبرى الثلاث العنيفة في القرن الماضي، بل في التاريخ البشري كله إنما هي (نتاج غربي).

1- فالصهيونية نتاج غربي حيث تخمرت هناك، وتأسست هناك.

وهل الصهيونية حركة إرهابية؟.. هي كذلك بحكم فكرها، وبمقتضى فعلها. أما الفكر فملخص في كتاب هرتزل (الدولة اليهودية).. نقرأ في هذا الكتاب: ((لا يتم تأسيس دولة الآن بالأسلوب ذاته الذي كان يستعمل قبل ألف سنة. فلنفترض بأننا اضطررنا إلى أن نخلي بلدا من الوحوش. ففي هذه الحال يجب علينا ألا نقلد الأوروبيين الأقدمين بأخذ الرمح كل على حدة، ولنبحث عن الدببة، بل يجب علينا تنظيم حملة صيد كبيرة، ومن ثم نجمع الحيوانات كلها معا، ونلقي في وسطها القنابل المميتة)).. والمقصود بحملة الصيد الكبيرة هو (صيد الفلسطينيين طبعا)!!.. وأما (الفعل الصهيوني) فهو تطبيق لهذا الفكر الإرهابي المتوحش. ولقد تمثل التطبيق في المذابح الإرهابية: في دير ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وقانا، والمسجد الإبراهيمي.. إلخ.

2- والحركة الشيوعية (إنتاج أوروبي) بلا جدال، وهي حركة قامت على فكر العنف، ومارست العنف على أوسع نطاق. فالبيان الشيوعي الأول - الذي أصدره ماركس وإنجلز - يقول: ((إن الشيوعيين يعدون إخفاء آرائهم ونياتهم عملا عقيما بلا جدوى، وهم يعلنون جهرا: أن أهدافهم لا يمكن تحقيقها إلا بقلب النظام الاجتماعي الحالي بأكمله بوسائل العنف)).. إن فلسفة العنف هذه ذبحت 20 مليون إنسان، في المدة ما بين 1937 - 1938، أي في عام واحد أرهب ستالين وقتل مليون إنسان رميا بالرصاص، يضاف إلى ذلك مليونا آدمي قتلوا في معسكرات العمل.

3- الحركة الثالثة الأوروبية الإرهابية هي الحركة النازية.. والنبع الأساسي لهذه الحركة هو (تمجيد العنصرية)، واعتماد العنف سبيلا لنصرة العنصرية.. وبناء على الفكرة والفعل أشعلت النازية - بالتحالف مع أختها الفاشية - الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها وشوه أكثر من 30 مليون إنسان.. فهل هتلر عدناني؟ وستالين قحطاني؟ وموسوليني حفيد لامرئ القيس؟ والألوية الحمراء الإيطالية هل تخرجت في مكاتب تحفيظ القرآن في بلد مسلم؟!.. ومكفاي مفجر المبنى الاتحادي في أوكلاهوما سيتي ليس عربيا ولا مسلما إلا إذا أصر الملتمسون للأبرياء العيب على أنه (عربي) بدليل أن اسمه (مكي فايد) ولكن الاسم حرف حين نقل إلى الإنجليزية!!

ولسنا نبرئ مسلمين من أعمال إرهابية اقترفوها. ففي المسلمين إرهابيون بلا ريب، وإنما ننتقد (حصر) الإرهاب في المسلمين، كما ننتقد تصعيد التهمة إلى الإسلام ذاته الذي من مقاصده: إشاعة الرفق في كل شيء، ونبذ العنف في كل شيء. فقد قال نبي الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله.. وما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع الرفق من شيء إلا شانه)).