دروب لا تفضي إلى مكان

TT

هذا العالم الصغير - حرفيا - يغرق حتى أذنيه في الصراعات، والثرثرة، والآراء المتناحرة، والتحولات السياسية الضخمة. تفتح الصنبور في الصباح فتخرج إليك نشرة أخبار عاجلة. تنام، تغلق الشبابيك، وأجهزة الجوال الذكية، والبرامج، ووسائل التواصل، والتطبيقات، والصور، لا مفر. قد تجد ذلك أسفل المخدة، ومع الإعلانات التجارية، وفي المرآة، ومن بين أصابعك أيضا. ولأننا لا يمكن أن نطفئ العالم ونوقف الحياة على طريقة التكنولوجيا على أي حال فنهدأ ونتأمل، ماذا لو نتوقف «نحن» ونفكر؟

قد يمكنني استعارة التساؤلات التي أثارت المفكر الفرنسي إيمانويل لفناس 1995 - 1906، وهي حول تخوفه من أن يكون في حياة لا يملك فيها أحد من البشر أي نوع من أنواع القدرة على التغيير والاختيار فعليا. لذا سعى هذا المفكر النابه إلى مبادرة مشروع عجيب، وهو البحث في السبل الممكنة لإيقاظ البشر من سباتهم الدوغمائي، والذي جعلهم يعتقدون أنهم قادرون في يوم ما على التحكم في كل أزماتهم، واقتراح الحلول «الجذرية» لها.

بلا شك لا يمكننا التحكم في «كل» الأزمات وإيقافها. لكن على الأقل يسعنا تقليص الخسائر الممكنة، من خلال العقلانية. وربما ما يمكننا المراهنة عليه، هو تخطي منطق الصراع هذا، والسعي لتفكيك الهويات والتيارات المتطرفة المنكفئة على ذاتها كأعشاب ضارة، ومد جسور التواصل بيننا وبين الأمم، واللحاق بما يمكننا اللحاق به من مترو الحضارة السريع، وترسيخ وجودنا العالمي وهويتنا الإنسانية الكونية. وهذا لا يتأتى بالانطواء عن العالم والانعزال، بل بالتكامل مع الآخر. من هو الآخر؟ هذا هو السؤال الذي غدا مشكلا فلسفيا معاصرا بامتياز.

ربما لم تأخذ «السوسيوثقافة» نصيبها الكافي من الاهتمام في العالم العربي. وربما أقول إن التطور الاقتصادي والسياسي - إلى حد ما - أسهما في تطوير الفكر الاجتماعي. لكن هل كان ذلك مرتجلا عشوائيا بلا أسس؟ الحقيقة - ولا أحد يزعم الحقيقة المطلقة - أن الخط الثقافي في العالم العربي أنجب عددا يسيرا من القياديين التنويريين، لكن لم يكن لهم التأثير «الاجتماعي» الذي يمكن أخذه بعين الاعتبار، بسبب عدة عوامل على رأسها الدين، والعادات، والتقاليد، ونقص التعليم، وقنوات الثقافة التي يمكن أن تصل إلى فكر العامة. وهو إرث ثقيل على أي حال. وجاءت «الأصولية» كأحد الأسباب الرئيسة للتطرف العربي عامة، فهي لا تهدد عقولنا فحسب، بل تهددنا اجتماعيا، في محيطنا، والمحيط العالمي الأشمل المنطوي على مشتركات إنسانية. والتطرف هذا والأصولية هذه لا يظهران من منشأ ديني فحسب، بل من فكر أحادي عام: مذهب، تيار، موقف، رأي.. إلخ.

ثمة مقارنة ظريفة أوردها هنا، ففي قراءة للتاريخ الألماني - أو القبائل الجرمانية القديمة التي كانت أساس ألمانيا الحديثة، نكتشف أن ثمة تشابهات كبرى مثيرة بين العرب وبين الألمان ومن نواح عدة. لكن النتائج التي جمعت هذه المشتركات هي بالتأكيد مختلفة. فلكل منهما - العرب والألمان - لغة ذات أصالة وخصوصية، ومجد ضائع، ودين متمكن وضارب بشكل عميق في المجتمع، وانتماء قومي عميق، عصي على الانصهار. لكن ألمانيا تمكنت من تطوير العقل والفكر الفلسفي العالمي بريادة، فأخرجت - هي القبائل البدوية الأصل - مثقفين وموسيقيين ومفكرين تنويريين عظاما، لا مجال لحصرهم هنا. وهم بذلك يشكلون إرثا إنسانيا عالميا. وثقافة ألمانيا المتفوقة في كل المجالات، أثرت على كل أوروبا من خلال بوابة الإصلاح الديني، لتخرج القارة الأوروبية من ظلمات القرون الوسطى، إلى ما هي عليه اليوم، حيث قامت بحملة كبرى جادة للإصلاح حين رأت أهمية ذلك. هي التي، وللمفارقة، حمت الدين مرة بشراسة أيضا من خلال الكنيسة، حين رأت أهمية ذلك. ولم يمنع الألمان من النهوض كطائر الفينيق بعد حربين عالميتين في زمن متقارب في أقل من نصف قرن - العشرين - هزمت فيهما هزيمة طاحنة، لكنها نثرت الغبار ووقفت شامخة من بين الهزائم والانتصارات بمدرسة فكرية عسكرية تعلم منها العالم. فللألمان ينسب تأسيس «علم الاستراتيجية» على يد الكاتب العسكري فون كلوزيتز. هي ألمانيا كدولة وحدها!

لذا فالعقل العربي، على أي حال، يحتاج ليتطور حقا أن يتبنى مفهوما معاصرا لأعمال عميق لأدوات الفهم والإصلاح والتطوير والتحليل والتفكيك والنقد عموما. إذ يختلط على ممارسي النقد (نقد الشارع) أسس النقد، فيتحول الأمر إلى صراخ وتذمر وسوداوية عميقة، بلا أطروحات وحلول واقعية، بل بعقول سلبية هروبية. وهذا ما لا تحتاجه المجتمعات الآن. نحن نحتاج فعلا إلى إدارة الأمور المستعصية بعقلية شبيهة بآلية «تكسير الصخور والحجارة» عن طريق إحداث ثقوب فيها لتحشى بمادة تفتيت. وهو حل «عقلي» ذكي، بدلا من الضرب على أحجار صلدة لا يمكن أن تتفكك وتحل بالطرق اليدوي البدائي. وهكذا قضايانا الجدلية الملحة. بدلا من السعي وراء دروب صراعية «لا تفضي إلى أي مكان»، على رأي المفكر هايدغر.