«الرمز» في مسيرة الجماعات النضالية

TT

خارج أسوار المدينة القديمة في «لاهور»، كان يقع مسجد غير مشهور يدعى مسجد «شهيد جانج»، أو (كنز الشهداء)، في عام 1935م كان مكان المسجد مسرحا لكثير من أحداث الصراع والاقتتال بين المسلمين والسيخ في الهند البريطانية.

في كتابه «الإسلام والسياسة.. والحركات الاجتماعية» من تحرير إدموند لابيدوس، يكتب ديفيد جيلمارتين متتبعا تشكل وتكون الجماعة الإسلامية في الهند مطلع القرن العشرين من خلال رمزية مسجد «شهيد جانج»، كيف أصبح المسجد رمزا لوحدة المسلمين الهنود، وسبيلا لتكاتفهم وتحقيق وجود سياسي لهم في ظل حكم الاستعمار البريطاني آنذاك، وتكوين هوية جامعة لهم قادت بعد ذلك إلى طريق آخر مختلف تماما، أدى فيه «المسجد» وظيفة رمزية مهمة، لكنها كانت مؤقتة ووسيلة لتحقيق الهدف المنشود.

لنتأمل هذه القصة من بدايتها.. في ليلة 7 يوليو (تموز) 1935 دمر السيخ مسجد «شهيد جانج»، كان ذلك كفيلا بأن يطلق شرارات الغضب بين المسلمين الهنود، ويطلق هياجهم في المدينة، يرد مولانا ظفر علي أحد أبرز قادة الجماعة الإسلامية في الهند قائلا: «لا يتردد المسلمون مطلقا عن تقديم أية تضحية في سبيل حماية رموز العقيدة الدينية».

خرجت المظاهرات في شوارع لاهور احتجاجا على احتلال المسجد من قبل السيخ، بلغت المسيرات الضخمة ذروتها فأطلقت الشرطة النار على المحتجين وسقط أكثر من اثني عشر قتيلا بين المسلمين، حشد «مولانا ظفر علي خان» كوادر من الطائفة من أجل تشكيل تنظيم سياسي مضاد ينطلق من رمزية المسجد هدفا ورؤية، فتشكل «مجلس اتحاد الملة» للنضال دفاعا عن المسجد، كان مولانا ظفر علي في صحيفة الاتحاد يعبئ الجموع بإلهاب المشاعر بالحديث عن المسجد «الرمز»، وجماعة السيخ «الشيطان». يقول ديفيد جيلمارتين: «كانت الكارثة التي تعرض لها المسجد كفيلة بأن توحد صفوف المسلمين الهنود، لم يكن ذلك بجهد زعيم معين».

ما زالت جهود الاحتجاج من أجل المسجد مستمرة، واشتعلت جذوة الوعي بهوية الجماعة المسلمة في الهند، كان التعبير العام بين المسلمين يستشعر أزمة العيش وسط مجتمع غالبيته من الهندوس، قادت سلسلة من الاحتجاجات الفاشلة من أجل استرداد المسجد الجماعة الإسلامية إلى التفكير بطريقة مختلفة، وتوجيه مركزية الهوية للجماعة باتجاه آخر، نحو التفكير بأرض مستقلة كاملة تنعم بقيادة مسلمة ترعى وتحفظ الهوية الإسلامية، فكانت فكرة تأسيس دولة باكستان «الجمهورية الإسلامية» والانفصال عن الهند، قامت هذه الدولة على إرث عاطفي وقوده أحداث ذلك المسجد الذي دمره واحتله السيخ، وبذكرى أرواح الشهداء الذين ماتوا من أجله.

ولكن المفارقة حين حصلت باكستان على استقلالها 1947 حدث تحول مثير ولافت في الدلالة الرمزية لمسجد «شهيد جانج» الذي قاتل المسلمون من أجله، باعتباره رمزا لهوية الجماعة المسلمة في الهند، حيث اتجهت الحكومة الإسلامية الجديدة في باكستان اتجاها مناقضا لكل تاريخها النضالي، وتعاملت مع موقع «شهيد جانج» باعتباره رسميا «معبدا للسيخ»، في دلالة رمزية أخرى على التزام الحكومة بحماية الأقليات في بلد أصبح بعد التقسيم تقريبا يخلو من السكان السيخ.

تعكس هذه الحادثة الفريدة الوظيفة التي يلعبها «الرمز» في مسيرة الجماعات النضالية، هي تتعطش كثيرا لخلق حالة رمزية تعبئ الجموع من أجلها، تلهب حماسة الجماهير، وتوحد الصفوف من أجل دلالة رمزية لها عمقها الديني أو العاطفي أو الاجتماعي.

يتم تقديس «الرموز» وضخها بهالات عاطفية ووجدانية، لكن قادة وزعماء التجييش النضالي يعون أن «الرمز» ليس إلا أداة ووسيلة ناجحة جدا للوصول إلى «منصة» لا يمكن الوصول لها إلا من خلاله، الصادقون فقط يشعرون بالخذلان حين يرون تلك «القيمة» أو «الرمز الديني» الذي قاتلوا واتحدوا من أجله أصبح نسيا منسيا حين وصل قادتهم إلى مبتغاهم.

لا أدق من مشاهدة حالة شبيهة، عن ذلك «الرمز/ فلسطين» في أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر، بعد أن ملأ خطاباتهم في السابق ضجيجا وانفعالا وغضبا لأجله، أصبح في قائمة النسيان بعد أن وصلوا للحكم في عهد «الربيع».

وفي سياق السجالات السياسية والثقافية في الخليج، تتكرر الحالة، ويُستدعي «الرمز» في معارك الحشد والتعبئة، أحدهم يكتب في «أشواق حريته» محرضا من أجل التحرك والتغيير، منظرا لديمقراطية إسلامية ليقنع رفاقه بها، يقول: «حين نتحدث عن الديمقراطية، فنحن نتحدث بالضرورة عن نزيفنا المشتعل دوما في فلسطين، وعن أوصال جسدنا الإسلامي المنهك». لا أدري ما هي العلاقة بين التنظير لفكرة الديمقراطية، وقضية فلسطين، ولكن على الرغم من كل ذلك فإن من يتحدث عنهم قد وصلوا إلى الحكم عبر الديمقراطية وما زال «نزيف فلسطين مستمرا»، أو بالأحرى لم تعد قضية تشغل بال من أشغلونا بها سابقا، وزايدوا من أجلها، واتهموا الحكومات التي كانت تقف ضدهم وشيطنوها بالعمالة للمشروع الصهيوني، وهم الآن يقتدون بأسلافهم – أعدائهم - حذو القذة بالقذة وأكثر.

من يتابع الجدل الحقوقي المحموم في الخليج، يجد أن الأصوات الشعبية التي ترفع لواء «النضال» و«المطالبة» تتترس بقيم ذات دلالات رمزية عميقة، إنها تحرك الأمل والوجدان حقا، حيث «المجتمع المدني»، و«الديمقراطية»، و«العدالة»، و«النزاهة»، لكن اقترابا بسيطا لممارسات بعض رافعيها تكشف أن المسألة مجرد «خديعة» ومطية مزورة من أجل «وصول»، وتحقيق «نفوذ» تُداس بعده تلك الشعارات المسكينة التي استهلكتها أفواه الخصوم، بينما يذهب الطاهرون ضحية صدقهم.. والنماذج «المبكرة» من حولنا خير شاهد.

هذه هي طبيعة الحركات الجماهيرية، حتى تنجح وتحقق أهدافها يعمد قادتها إلى صناعة «رمز» تُعبئ العواطف المتضامنة المخلصة لأجله، وخلق «شيطان» تُشحن المشاعر الغاضبة المتفجرة ضده، وفي الأخير يكون كل ذلك تبريرا للغاية والكرسي، كما قال نابليون: «الكراهية والطموح صنعا الثورة، أما الحرية فكانت التبرير».