لا خلط فيها!

TT

قديما عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أدخل إلي غرفة جلوس والديّ وهما يشاهدان بتركيز أحد الأفلام وكنت دوما ما أسألهم «من هم الطيبون ومن هم الأشرار في الفيلم» حتى آخذ صف الطيبين وأتعامل معهم، والأمور كانت بهذه البساطة أيام الطفولة، ولكن المدهش أنه في عوالم السياسية الصعبة تختلط المعاني والقيم والأهداف. والربيع العربي أظهر على السطح مجموعة هائلة من نقاط الضعف والأمراض والعلل المهولة، واختلط الحابل بالنابل وخرجت «عفاريت» التطرف والأصولية والبلطجية والنرجسية والغوغائية من كهوف النسيان وأتت بنوع جديد من الطغيان والاستبداد مغلفا بالأعراف ومفهوم متشدد للدين الإسلامي.. كل ذلك ولد حالة من الفوضى والسيولة التي لا يمكن معها قياس ولا معرفة الاتجاهات ولا قراءة البوصلة السياسية بدقة ووضوح شديد، وحصل لدى أعداد مهولة من الناس حالة من «الصدمة» لما آلت إليه الأمور في بلدان شامخة وتاريخية وعريقة فيها وتحول المشهد من مطالبات محقة بحقوق ورفع مظالم إلى فوضى عارمة وقتال لا نهاية له، وراح مع كل ذلك الأمل المنشود والأهداف المأمولة.

هل اختلطت مفاهيم الحق والباطل وبات المرء في حيرة كبيرة من تبيان الأمور على واقعها؟ وهو الأمر الذي يشرح لي أهمية الدعاء النبوي الشريف على صاحبه أزكى صلاة وأطهر تسليم حينما كان يقول «اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه»، وكذلك دعوته المعروفة عليه الصلاة والسلام «اللهم أرنا الأشياء كما هي»، وهاتان الدعوتان الشريفتان فيهما مفتاح عظيم لمداخيل الأمور الحاصلة. فالاعتقاد أن الباطل ممكن أن يزيف بحق أمر وقع فيه من يؤيدون الطغيان ويدعمونهم في طغيانهم وهي المسألة التي تفسر حال الثورة السورية المباركة وهي تشهد دعم أفراد من المحسوبين على النظام سواء أكانوا رجال دين أو تجار أو فلاحين أو جنود إضافة لمرتزقة من ميليشيات طائفية تدعم النظام لأسباب أخرى.. ولكن كل ذلك مفهوم حينما يتم تحليل الأمر في سياق تاريخي وواقعي ومنطقي وحقيقي، وهي مسألة مفهومة إذا ما تم تحليل نتاج أربعة عقود من غسيل الدماغ المركز وصناعة الرموز و«تقديس» العائلة الحاكمة ليصبح الحكم «عقائديا» إلى الأبد وليس فقط شعارا يرفع ولوحات تعلق وأقوال تردد. ولكن جيل وراء جيل كان يتم الغسيل الدماغي المركز بتحويل الحقائق إلى أكاذيب والإتيان بأساطير لا أساس لها وتكريسها أنها تاريخ البلاد والناس والشعب وتحويل الحاضر إلى مفهوم تطبيق لتحقيق كل ذلك والأداة كانت الطائفية والحزبية.

فالاعتماد كان على الطائفة العلوية لتحقيق الولاء المطلق في الدائرة المقربة الأولى، فجرى توزيع الكعكة الأمنية والاقتصادية الرئيسة على أولي القربي لضمان الولاء المطلق.

وبعدما تحققت مآرب أخرى عن طريق الآلة الحزبية الفتاكة التي تولد إفساد الأدمغة وتكريس العبودية للحاكم المطلق عبر التماثيل والكتب والأمثال والأقاويل ورويدا رويدا كان حافظ الأسد الأسطورة الحية وأبناؤه من بعده الأسرة المختارة وأن المسألة محسومة ولا شك في ذلك، فيجري التفسير «المنطقي» و«العلمي» لتحويل سوريا إلى سوريا الأسد بمنتهى السلاسة وبرغبة «الشعب الحرة» ولذلك كانت صدمة النظام هائلة حينما خرجت مجموعة من أطفال درعا، تلك المنطقة التي تعتبر سلة الغذاء للقطر السوري وموقع الفلاحين الأكبر عمود الدعم التقليدي للنظام، هذه المجموعة من الأطفال وأهاليهم انقلبوا على النظام لأن النظام لم يفطن إلى أن عناصر التغيير والاستبداد حلت على درعا بقهرهم كفلاحين اقتصاديا عن طريق «زمرة» الرئيس الحاكمة المستبدة وكانت الشرارة التي انطلقت من هناك.

ولأن الوضع السوري هش كبيت العنكبوت الواهي كان من الطبيعي أن يطال هذا الانهيار كل مكان في سوريا، وهذا ما حدث.

بوصول سوريا إلى رحلة اللاعودة واختلاط المشاهد بين الحق والباطل وبين الخير والشر، يبقى واضحا أن نظاما يبيد شعبه لا مكان له باسم الدين وباسم العروبة وباسم الإنسانية. وهذه مسألة لا خلط فيها.