الأخوان تسارنايف!!

TT

يا إلهي، إنهما مسلمان، والموضوع هو الإسلام مرة أخرى. كان العجب قد حدث مرة أخرى في مدينة بوسطن هذه المرة مخضبا بالدماء والأشلاء، ومشاهد لا تجدها إلا في أسوأ أفلام الرعب والإثارة، حيث تطير الأطراف، وتتشوه الأجساد، ويبدو العالم مضطربا إلى أقصى حد حينما تجري المطاردات، ويسقط ضحايا أوقعهم سوء الحظ في طريق صراع الحضارات، وبعدها تمزق الرصاصات واحدا من الأشرار، ولا يمضي وقت طويل فيكون القبض على الأخ الثاني. وقت أن جرى الحدث - الجريمة - في مدينة بوسطن اتصلت بصديقي الحميم محمود عبد الله، المقيم في الولايات المتحدة، وقال لي يبدو أن الواقعة التي جرت عند خط نهاية الماراثون ليس لها علاقة بنا نحن المسلمين، والأرجح حتى الآن أنها من الجماعات الإرهابية المعادية للحكومة الفيدرالية، والتي تقوم بمثل هذه الأعمال أحيانا متفرقة. ولكن الأخبار توالت وعرفنا القصة كما جرت، وهي كالعادة تجري بصورة تفوق ما في أكثر كوابيسنا جنونا، وهي أن يصير ديننا وهويتنا موضع شك في العالم مرة أخرى، ربما ليس بنفس الدرجة من التأثير الذي حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ولكن قريبا منها. وربما زاد الاقتراب بعد أن تبين ما يشير إلى أن مرتكبي الجريمة الإرهابية خطر ببالهما بعد تنفيذ خطوتهما الأولى أن يحملا قنابلهما إلى مدينة نيويورك لكي يفجرا ما تبقى لديهما من قنابل، وفي ميدان ماديسون الشهير.

لا أدري ما مشكلة الإرهابيين مع مدينة نيويورك، فلم يجر بها التفجير الأعظم في التاريخ فقط، وإنما تكررت المحاولات حينما حاول فيصل شاهرزاد في 2010 أن يفجر سيارة مفخخة في ميدان ماديسون. فشلت المحاولة ولكن الفشل لم يفعل أكثر من أن جعل الأخوين زوخار (جوهر) وتامرلان تسارنايف يفكران في الموضوع مرة أخرى أثناء محاولتهما الخروج من بوسطن. ولكنّ كليهما لم يصل على أي حال إلى المدينة التي من الجائز أن تكون تسميتها بالتفاحة الكبرى جعلتها في أفكارهما مكانا للذنب والمعصية تحتاج إلى عقاب سماوي من نوع آخر. ولكن السؤال هو لماذا يتحمل جماعة من المسلمين هذه المهمة دون غيرهم من البشر من أصحاب ديانات أخرى، أو مذاهب لها هي الأخرى مراراتها التاريخية عن الغرب والولايات المتحدة، ولكن أحدا منهم لم يقترب من الأميركيين إلا إذا طلب الفيزا للدخول إلى أميركا؟! الغريب أن ذلك كان ما فعلته أسرة تسارنايف عندما قدم عائلها طلبا للجوء إلى أميركا تخلصا من الاضطهاد الروسي لشعب الشيشان. ذهبت العائلة وحصلت على حق الإقامة، وحصل الولدان على الجنسية، بل وبعض من مال الضمان الاجتماعي مع الاندراج في نظام التعليم الأميركي، ومع ذلك قام الأخوان تسارنايف في التفكير والتنفيذ لخطة بشعة قوامها تفجير أواني البخار بعد خلطها بالبارود والشظايا القاتلة وسط المتسابقين في ماراثون بوسطن السنوي. لا أظن أن الأخوين كانت لديهما مشكلة مع الماراثون، ولا مع أي من المتسابقين فيه، ولا مع المدينة المتسامحة في عمومها مع الأجانب والأجناس المتعددة، ولا كان لديهما غضب من الليبرالية الشديدة في الولاية، وإنما الثابت من أقوال الأخ الأصغر أن معضلته الرئيسة كانت مع ما اعتبره هجوما أميركيا على الإسلام في مناطق متعددة من العالم. لم يكن ما جرى في الشيشان هو المشكلة، ولا كانت هناك معضلة في الحالة التي عاشها الأخوان تسارنايف في الولايات المتحدة، المعضلة كانت أن الإسلام تعرض لخطر مميت.

وضع المشكلة على هذا المنوال يضع أمامنا قضايا شائكة، أولها أنه لا توجد علاقة بين أي من المتسابقين في الماراثون والحروب الأميركية في خارج البلاد، وفي حدود ما سألت فإنه لا يوجد في الإسلام ما يجعل أهل بلد يتحملون وزر السلوك الخارجي والحروب التي تدخل فيها بلادهم. إنهم من دافعي الضرائب، كما يقال في الفكر الغربي. الذي يبرر الإرهاب لا يجعل ذلك موافقة على قرار بعينه، وإنما هو مرتبط في كل الأحوال بقرارات لها علاقة بحياة الشعوب. وثانيها أن الحروب التي يشنها، سواء كان الأخوان تسارنايف أو غيرهما، لم يجر بشأنها أي تفويض لا من البلاد الإسلامية التي دخلت في الحروب الأميركية، ولا من العالم الإسلامي كله. وثالثها وربما كان أهم الأسئلة هو كيف تحول شابان يافعان لهما مستقبل باهر داخل الولايات المتحدة التي جاءا إليها للحصول على هذا المستقبل إلى إرهابيين قاتلين على هذه الشاكلة المروعة للبشر، والانتحارية في جوهرها؟! ما جرى للأخوين تسارنايف بشكل أو آخر كان نزع الضمير الإنساني داخلهما، فهما ليسا في ميدان قتال بحال، وإنما دخلا على ماراثون يتبارى فيه البشر على السبق والتحمل والشعور بالإنجاز من نوع آخر. لم يغير من النيات العدوانية أن في الجمع أطفالا، أو أن فيهم أحباء وأزواجا وآباء وأمهات، أو أن الأمر في النهاية هو العبث بالحياة في مدينة آمنة. وما كان لا يقل خطورة كان غرس فكرة شيطانية قوامها أن قتل النفس التي حرم الله قتلها يكون في سبيل الإسلام. وكانت الطريقة التي تمت بها عملية قتل ثلاثة أفراد وإصابة 260 بإصابات كبيرة نتاج عقل لا يمكن إلا أن يكون نتيجة غرس حوّل الشابين إلى آلتي قتل عظيمتين فقدت فيهما كل عاطفة دينية كانت أو إنسانية.

المسألة قد تكون أكبر من كل ما سبق، وبالتأكيد فإنه لا توجد صلة بين الإسلام كدين والعمليات الإرهابية، كما أن كل المنتمين للأديان الأخرى قاموا بعمليات إرهابية في أماكن متفرقة من العالم. ولكن أنصار الديانات الأخرى اجتهدوا في منع المنتمين إليهم من الإرهاب، أما بالنسبة إلينا فإن طرح السؤال يدفع كثيرين إلى الدفاع عن الإسلام فينتهي الأمر بتبرئة الإرهابيين. لقد كتبت مرارا في الشهور الأخيرة عن إعادة تمركز الجماعات الإرهابية داخل المنطقة العربية وأطرافها، ويبدو أن البعض في العالم الإسلامي بات جاهزا لإرسال كتائب جديدة هو الآخر، ليس فقط إلى منطقتنا، وإنما إلى بقية العالم. كل ذلك جاء نتيجة آلة جهنمية لا تتوقف عن إنتاج آلات القتل الجماعي، وتوليد الكراهية الجماعية للمسلمين. لن يعفي الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ترديد ما جرى من جرائم غربية تجاهنا، دون أن يكون لدينا نفس الشجاعة لكي نوقف تلك الآلة الدموية.