هل تعيش تركيا أزمة هوية؟

TT

يكثر الحديث عن هوية تركيا، وعما إذا كانت شرق أوسطية أم أوروبية، فقد اشتد الجدل حول ذلك بين المثقفين والإعلاميين العرب بشكل عام، وقد تناسى البعض أن تركيا تمد يدها للكل. من هذا المنطلق، يتساءل آخرون عما إذا كانت تركيا قد بدلت محورها.

نقول في هذا الصدد، إن تركيا عضو في حلف شمالي الأطلسي، وعضو مؤسس في المجلس الأوروبي، وعضو في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ولديها اتفاقية للإعفاء الجمركي مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1996، وهي ماضية للانضمام الكامل لهذا الاتحاد. ولكن تركيا عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، ومن كبار المساهمين في البنك الإسلامي للتنمية، وعضو مراقب في الجامعة العربية، ولديها اتفاقية للتعاون الاستراتيجي مع مجلس التعاون الخليجي.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن تركيا عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، وعضو في منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم أفغانستان وباكستان وإيران وأذربيجان وغيرها، ومن مؤسسي منظمة تعاون دول البحر الأسود. ولذلك نستطيع أن نقول إن تركيا ليست أوروبية وليست شرق أوسطية، إنها تمد يدها للكل، في حالة متميزة تماما نسميها «تركيا» بذاتها، كحالة متميزة في هذا العالم، من دون أن نؤطرها في أطر جغرافية ولا آيديولوجية. فتركيا اليوم لم تبدل محورها، ولكنها صححت هذا المحور بما نسميه سياسة الرجوع، أي الرجوع إلى الجذور والأصول، واستذكار معاني الأخوة والعلاقات التاريخية والثقافية والدينية.

أسس العلاقات بين الدول

تقوم العلاقات بين الدول في منطقتنا بالذات على ضلعين أساسيين. الأول هو الضلع الثقافي الذي يتمثل في العلاقات التاريخية والاجتماعية والدينية والثقافية، بكل ما تحتويه هذه العلاقات من معاني التآلف والود. أما الضلع الثاني فهو الضلع الاقتصادي، الذي يتمثل في المصالح المشتركة والتنمية الاقتصادية.

فإذا اقتصرت العلاقات بين الدول على الضلع الأول، فقد ثبت في الكثير من العلاقات الدولية والمناطقية أن هذه الروابط تبقى حبيسة الكتب والمقالات والمحاضرات، أو تدرج في محاضر الاجتماعات والمؤتمرات من دون تقدم يذكر. كما أن العلاقات التي تقتصر على الضلع الثاني، تجابه دائما ببدائل تحتمها المصلحة الذاتية في هذا البلد أو ذاك، خاصة بعد ظهور التجمعات الاقتصادية الجديدة مثل الاتحاد الأوروبي أو «الآسيان» أو «النافتا» أو «البريكس».

أما إذا امتزج الضلعان بشكل دائم، فإن ذلك ينعكس على عمق العلاقة ويجعلها دائمة وحقيقية. ولذلك فإن الدول التي تتمتع بمثل هذه العلاقات، يجب - في رأينا - أن تركز على الضلعين بشكل متواز لديمومة هذه العلاقات ونموها وازدهارها. ولا يعني ذلك إطلاقا أن العلاقات الاقتصادية تكون على سبيل التربح المستمر، فهذه الدول يجب أن تخطط للتعاون بينها، بحيث يستفيد الكل من التجارب المقدمة، من دون أن تكون هناك أجندات خفية، أو محاولة للاستحواذ على قرار الطرف الآخر، أو التأثير فيه بشكل مباشر.

السياسة التركية في الماضي والحاضر

لقد وقعت تركيا في الماضي، وبفعل التحديات التي واجهت نموها ومواكبتها للعصر، في أخطاء ألقت بظلالها على توجهات تركيا السياسية في المنطقة وفي خارج المنطقة. فقد اتجهت تركيا لخلق أعداء وهميين خططت سياساتها على أسس التعامل معهم، والتحوط منهم والتصدي لمشاريعهم ولم يلتفت الساسة في وقتها إلى أن خلق الأعداء الوهميين، يحولهم بفعل الزمن وبفعل الاحتياطات المتخذة إلى أعداء حقيقيين. وكما رأيتم فقد أصبحت تركيا في فترة من الفترات كجزيرة محاطة بالأعداء صممت سياساتها للتصدي لمخططاتهم.

ولكن عندما نفضت تركيا عنها غبار الماضي، ومدت يد التعاون إلى الكل من دون استثناء، وأصبحت تغلب ثوابتها على مصالحها الآنية، فقد وجدت نفسها محاطة بأصدقاء يتمنون أن تكون العلاقة معها مزدهرة مثمرة. ونستطيع القول إن بعض الأزمات التي تعصف بالمنطقة لم تتولد إطلاقا من الموقف التركي إزاء هذه البلدان، بل بفعل الأحداث التي وقعت فيها من دون الالتفات إلى المعايير الحضارية والإنسانية، التي يجب أن تسود المنطقة وعموم العالم.

لم يكن هذا التحول سهلا، ولكنه أسس على أرضية صائبة، وأسفر عن تقدم اقتصادي وتقني وعلمي وحضاري.

لقد ركزت تركيا في خضم هذه السياسة ليس على تبديل القوانين والأنظمة والتعليمات، ولكنها ركزت على تغيير الذهنية ونمط التفكير. فإذا ما تم تغيير نمط التفكير فسيكون سهلا التخلص من أعباء الماضي، وتأتي الإصلاحات الديمقراطية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بشكل متسارع وتلقائي، وفي هذا يكمن أساس ما فعلته تركيا.

من أهم مظاهر هذه النقلة النوعية أن تركيا تضع حاليا التعليم في المرتبة الأولى من ميزانيتها العامة، بدلا عن الحقول الأخرى مثل الدفاعية والعسكرية التي كانت تحتل سابقا قصب السبق في هذه الأمور. أدركت تركيا أن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأفضل، ولذلك ركزت على تطوير القوة البشرية واتباع التقنيات الحديثة من تكنولوجيات «النانو» إلى اتباع أحدث الوسائل العلمية في التطوير والإبداع.

أفرزت هذه التحولات النوعية أن يصل عدد الجامعات التركية حاليا إلى أكثر من 170 جامعة في كل أنحاء البلد، إضافة إلى إنشاء الكثير من المراكز الثقافية ومراكز الأبحاث والدراسات ومراكز تطوير النوعية. كمثال على ذلك نورد أن الذين يعملون في حقل الإبداع والتطوير والبحث العلمي في قطاع الصناعات الدفاعية فقط، من غير العاملين في خطوط التصنيع والإنتاج، هم أكثر من خمسة آلاف مهندس يركزون على بحث الوسائل الجديدة للتطوير، واستنباط الوسائل الجديدة للارتقاء بهذه الصناعة.

أما القطاع الصحي فقد حقق نقلة نوعية، جعلت تركيا مقصد الذين هم بحاجة للرعاية الصحية، وقد وفد الملايين من المرضى ومرافقيهم من الدول الأوروبية إلى تركيا لتلقي العلاج، في حين أن تركيا كانت تبعث بالحالات المستعصية إلى خارج تركيا دوما، حتى العقد الأخير من الزمن.

أما السياحة فقد حققت تطورا ملحوظا، بحيث أصبحت تركيا في المركز الخامس دوليا كوجهة للسياح، حيث وفد أكثر من ثلاثين مليون شخص بقصد السياحة إلى تركيا في العام الماضي، ومدينة أنطاليا وحدها تستقطب ما لا يقل عن عشرة ملايين سائح سنويا، وكذلك إسطنبول التي لم تقتصر على كونها وجهة سياحية، بل تعدى الأمر إلى أن تكون مركزا عالميا للمؤتمرات.

جميع هذه الحقائق أدت إلى تطور الاقتصاد التركي الذي يحتل المركز السابع عشر دوليا، وضمن مجموعة العشرين، كما أنها في المركز السادس بين جميع الدول الأوروبية شرقية وغربية في نمو الاقتصاد.

التواصل العربي - التركي

لا يمكن إنكار حدوث فجوة بين العرب والأتراك في فترة من الزمن لم يكن الطرفان مسؤولين حسب اعتقادنا عن زرعها، بل كان مخططا لها من قبل جهات رأت أن إعادة التقارب الحميم بين هذين الشعبين، تؤذي تطلعاتها ومصالحها. وبغض النظر عن تعليق هذه المسائل على شماعة المؤامرات الخارجية، وقبولنا بأن الطرفين يتحملان جزءا من مسؤولية عدم تصفية الأجواء، وأضرب على ذلك مثلا، بما نشأت عليه الكثير من الأجيال في هذه المنطقة، بفعل المفردات الدراسية التي كانت تصور كل طرف كأنه يستهدف الطرف الآخر.

وعندما بدأت حملة تصفية هذه المفردات من رموز الكره والشبهات وعلامات الاستفهام، أدركنا أن أجيالا جديدة ستنشأ على أساس المودة والحب والتقارب. قد يستغرق ذلك وقتا، ولكن الجميع يجب أن يتحلى بالمسؤولية خلال هذه الفترة بترسيخ مقومات التواصل العربي - التركي، من إنشاء الجامعات المشتركة ومراكز الأبحاث والدراسات، وتنظيم الفعاليات الفنية والثقافية والاجتماعية.

نحن لا نريد من العرب أن يطلعوا على الواقع التركي من منظار المسلسلات الدرامية، فأكثر هذه المسلسلات لا تمثل الحقيقة التركية ولا مقومات المجتمع التركي. لا ضير طبعا في من يروم البحث عن التسلية في ذلك، ولكننا يجب أن نركز على تقديم الحقائق الجوهرية لبعضنا البعض.

إنني، ومن واقع مكوثي في المنطقة العربية عقودا من الزمن، وكوني أتمتع بعلاقات واسعة مع رجال السياسة والاقتصاد والثقافة فيها، فإنني أسأل مرارا إخوتي العرب عن الكثيرين من فطاحل الأدب والشعر والثقافة في تركيا، فلا أجد من يعرفهم إلا القليل النادر، وقد تكون معرفة هذا البعض بفعل اطلاعهم على تراجم لهذه الأعمال من لغات أخرى.

ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك، بل إنني أسأل إخوتي الأتراك عن فطاحل الأدب والثقافة والعلوم من العرب، فلا أرى من يعرفهم إلا القليل النادر، لعدم إتاحة الفرصة لكل هؤلاء المثقفين للاطلاع على نتاج بعضهم بعضا، إلا من خلال من أسميهم «مقاولين من الباطن» الذين يقدمون ما يحلو لهم.

إنني أحيي مشروع الجامعة العربية والحكومة التركية المتمثل في إنشاء المنتدى العربي - التركي، وأعدّها خطوة مهمة للأمام، ولكنني أرى أن ذلك يجب أن لا يقتصر على الحكومات والمؤسسات الرسمية، بل يجب أن ننزل إلى الشارع العربي والتركي نبشر بهذه المفاهيم، ونخلق جوا من الصفاء ومشاطرة التجارب، بل وإغنائها.

من هذا المنطلق، فإنني أشارك الرأي من يرى أن مبدأ الحوار بين الشعوب، يجب أن لا يقتصر على الحكومات، بل إن من الواجب أن يتحلى الأفراد والناشطون، وتتحلى منظمات الفكر ومنظمات الفكر المدني بمسؤوليتهم القصوى في خلق جو ومناخ حقيقي للحوار بين العرب والأتراك، في نقلة حضارية متميزة للتقريب بين الشعوب. وقد كان ملتقى الحوار العربي - التركي الذي عقد في إسطنبول في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) 2012، وعقد جلسة ثانية في مملكة البحرين، مثالا حيا وتجربة غنية في هذا الإطار، إذ اشترك في لقاء الملتقى ناشطون من العرب والأتراك بشكل تطوعي، ومن دون إسهام من أي حكومة أو جهة رسمية ليصدروا نداء إلى كل من هو معني بهذا الأمر، للالتقاء حول هذه المفاهيم المتجددة.

* كبير مستشاري رئيس الجمهورية التركية لشؤون الشرق الأوسط