دروس تركية في القاهرة

TT

بعد فترة وجيزة من اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، قال المستثمر المصري البارز، أحمد هيكل: «إذا سرنا على نحو صحيح، فإننا يمكن أن نكون تركيا في غضون عشرة أعوام، أما إذا سرنا على نحو خاطئ، فإننا يمكن أن نكون باكستان في غضون ثمانية عشر شهرًا».

واليوم، بعد مرور قرابة عامين على ذلك التصريح، نجد أن اقتصاد مصر يبدو أقرب إلى اقتصاد باكستان منه إلى اقتصاد تركيا. فنسبة ثمانين في المائة من خريجي الجامعات عاجزون عن إيجاد وظيفة. وقد هبطت احتياطات النقد الأجنبي بقيمة الثلثين تقريبا، لتسجل مستويات متدنية جدا على نحو خطير. الجنيه المصري آخذ في الهبوط، كما تنخفض عائدات السياحة والاستثمارات المباشرة الأجنبية بشكل هائل. ويسجل معدل التضخم ارتفاعا مطردا. ومع ارتفاع الأسعار، تتبدد آمال المصريين.

إن ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تعِد بالنفع على اقتصاد مصر. فقيادة جماعة الإخوان المسلمين أظهرت محدودية مهاراتها في إدارة الاقتصاد. ويبدو أن محمد مرسي، رئيس مصر، اختزل تلك الدولة العريقة صاحبة الماضي العظيم، في مجرد شخص يستجدي المعونة. وفي الرحلة التي قام بها مؤخرا إلى روسيا، تم رفض طلبه الحصول على قرض قيمته مليارا دولار وشحنة قمح.

ليست تلك هي المكانة التي يجب أن تكون عليها مصر، تلك الدولة صاحبة الإمكانات الهائلة والجغرافيا الاقتصادية المواتية. تقع مصر في نقطة التقاء قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا. ويمكن أن تربط موانيها أجزاء العالم بعضها ببعض. وبوسعها استغلال شريحة الشباب الضخمة من سكانها كي تصبح «النمر الاقتصادي» القادم. غير أن اقتصاد مصر يبدو أشبه بقطة تهيم على وجهها في شوارع القاهرة عليلة هزيلة بحثا عن فتات الطعام.

من المؤكد أن الثورات قلما تعود بالنفع على أي اقتصاد. إن رأس المال جبان ويلوذ بالفرار مع مشاهد أعمال الشغب المحتومة والأزمة السياسية التي تأتي بها الثورات. ويعتبر تفاقم الانفلات الأمني وحرب الشوارع وحالة الاضطراب السياسي جميعها عوامل طرد لأي أعمال تجارية. غير أن الحكومة التي ترأسها جماعة الإخوان المسلمين لم تقم بإجراءات تذكر من أجل التخفيف من حدة مخاوف المستثمرين المصريين والأجانب، وما زال يتعين عليها وضع استراتيجية متماسكة للاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين.

قبل فترة تزيد قليلا عن عقد، قامت دولة إسلامية أخرى تعدادها السكاني ضخم وصاحبة حضارة معقدة قديمة بانتخاب حكومة جديدة في خضم الاهتياج السياسي والمعارضة المتأصلة للنظام. شهدت تلك الدولة، وهي تركيا، صعود رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية من خلال فوز انتخابي في عام 2002. ارتاب الجيش التركي في أردوغان، مثلما حدث مع نخبة رجال الأعمال في إسطنبول والاتحاد الأوروبي والعديد من الجهات الأخرى.

غير أن أردوغان، الذي سبق حبسه بسبب نظمه قصيدة إسلامية جهادية، سارع باتخاذ خطوات فورية بهدف تبديد أي مخاوف بعد الانتخابات. وفي كل مقابلة معه، كان يشدد على إيمانه بالإدارة العملية للاقتصاد. كانت تركيا تتعافى من أزمة مالية مدمرة. وكانت أيام النظريات قد ولت إلى غير رجعة، حسبما أوضح أردوغان. كان رجلا جديدا، لا واحدا ينظم قصائد جهادية، وإنما آخر يحفز النمو الاقتصادي.

ولدى سؤاله عن ماضيه، أجاب بشكل قاطع قائلا: «تلك الفترة قد مضت إلى غير رجعة. لقد فتحنا صفحة جديدة مع مجموعة جديدة من الناس، حزب جديد تماما». بل إنه أشار إلى تحول سياسي بارز بأسلوب بسيط، قائلا «كنا معارضين لأوروبا. أما الآن، فنحن مؤيدون لها». لقد دعم بقوة انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. وليوضح أنه يعني قطاع التجارة والأعمال، قام أردوغان بتعيين علي باباكان، التركي الشاب الذي درس التجارة في الولايات المتحدة، كأول وزير للاقتصاد. وكان عمره وقتها 35 عاما فقط.

وبسؤاله عن آيديولوجيته الاقتصادية، لم يستخدم أردوغان كلمات رنانة مثل «العدالة الاجتماعية» أو يشن هجوما على السياسات السابقة التي دفعت بتركيا إلى أزمة اقتصادية. جاءت كلماته وقتها كالتالي: «نرغب فقط في أن نزيد شعور الناس بالسعادة». وقام بتعيين تكنوقراطيين أذكياء ومنحهم السلطات.

وقد نجح في مسعاه. فعلى مدار الأحد عشر عاما التي تولى فيها قيادة السياسات التركية، زاد إجمالي الناتج المحلي للدولة بقيمة أربعة أمثال تقريبا. ومن المرجح أن تنضم إلى مجموعة اقتصادات التريليون دولار بحلول عام 2014 وربما يسجل اقتصادها قيمة تريليوني دولار بحلول عام 2023، وهو العام الذي يوافق الذكرى المائة على قيام الجمهورية التركية.

بينما تتعثر أوروبا، تستمر تركيا في الصعود، ويمكن التماس العذر للأتراك على تساؤلهم عن سبب رغبتهم على الدوام في الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي في المقام الأول.

إن أردوغان قائد شعبوي صاحب اتجاهات يمينية. وهو يدرك أن الشعارات المجردة لا يمكن أن تكون هي الهدف الذي يسعى إليه الناس. فما يرغبون فيه في واقع الأمر هو النتائج، لا الآيديولوجيات. في أيامه الأولى، تواصل مع معارضيه، مؤثرا عدم خوض معارك تتعلق بقضايا حساسة مثل حجاب المرأة، ودعم نمو شركات «النمر التركي» من خلال الحوافز وسياسات السوق الحرة. وهذا، بالتبعية، أدى لإعادة انتخابه لفترتين متعاقبتين، آخرهما في عام 2011.

ثمة كثير من الحديث الدائر داخل الأوساط الإسلامية حول النموذج التركي. إن النظرة للنموذج التركي تختلف باختلاف الرؤى ووجهات النظر. غير أن كثيرا من الإسلاميين المعاصرين يتحدثون عنه بوصفه هيكلا من الإدارة التكنوقراطية المعاصرة المقترنة بهوية دينية.

الواقع هو أن ما حققه أردوغان لا يعد تركيًا محضا أو إسلاميا خالصا. إنه يتلخص في مجرد سياسات سديدة. أوضح الباحثان الأوروبيان أوليفييه روي وتشيزاري ميرليني بذكاء في كتابهما «المجتمع العربي في ثورة» أنه في العالم العربي، «أصبح الناس أكثر استقلالية. وباتوا يطالبون بالحكم السديد وبحقوق المواطنة وليس الآيديولوجيات».

يمكنني أن أضيف أيضا أنهم متعطشون للنتائج، وأن القادة الذين يحققون تلك النتائج على أرض الواقع - اقتصاد متنام ونظام حكم جيد ورأي يحظى بالاحترام والكرامة - سوف يلقون الدعم، بصرف النظر عن آيديولوجيتهم. وينطبق هذا على العالم العربي، وأيضا على أوروبا والولايات المتحدة، وفي كل مكان تقريبا.

إذن، ماذا عن مقارنة أحمد هيكل لمصر بتركيا أو باكستان. في الشهر الماضي، قامت خدمة «موديز إنفستورز» بخفض تصنيف ديون مصر السيادية للمرة السادسة منذ قيام الثورة. ويعادل تصنيف مصر الائتماني الحالي التصنيف الائتماني لباكستان.