أطباء وأدباء وكوميديون

TT

قال باسم يوسف على التلفزيون الأميركي إنه ترك الطب إلى الكوميديا، لأن الثانية أكثر ربحا. غريب أمر مهنة الطب في مصر، فهي في كل العالم مهنة الضمان المالي والوجاهة الاجتماعية، إلا هناك، يهجرها الأطباء؛ إما إلى الأدب أو إلى الفن.. يوسف إدريس اشتهر في القصة لا في العيادة، وعلاء الأسواني هجر طب الأسنان إلى «عمارة يعقوبيان»، ويحيى الفخراني تخرج طبيب أطفال ولم يدخل عيادة في حياته؛ بل اتجه فورا إلى السينما، لحسن حظها وحظنا وحظه. ولعل أشهر من هجر الطب إلى القلم، كان مصطفى محمود، ولم نقل إلى الرواية أو إلى الشعر أو إلى النقد أو إلى الصحافة، لأن الطبيب مصطفى محمود حمل من كلية الطب حمولة من العلم وراح يوزعها على سائر أنواع المطالعات الفكرية، يساعده أسلوب ساحر بسيط يفتت برقة صخور العلم ويرقرق أصول الجماد.

عندما قيل لمصطفى محمود إنه ترك الطب من أجل المال في الصحافة، ضحك. آخر المهن التي كان فيها مال هي الصحافة، وآخر المكافآت التي تدفعها الصحافة هي للنوع الذي يكتبه مصطفى محمود: علم وطب، فلك وأرض، شك وإيمان.

لكن مصطفى محمود جرَّ الناس خلف قلمه، كما جرَّت أم كلثوم الناس خلف أوتارها الملكية. وصارت الناس تطرب للحبر كما تطرب للموسيقى. وأواخر الخمسينات من لم يكن يملك سوى ليرة واحدة كان يدفعها ثمنا لـ«صباح الخير» كي يقرأ مصطفى محمود وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري، وبعدها «يتحلى» برسوم صلاح جاهين.. وفيما لم يعد في الصحافة مصطفى محمود آخر أو بهاء الدين آخر، فإن الصحافة المصرية هذه الأيام «مولعة» رسوما كاريكاتيرية تؤكد أن مصر بلاد النيل والأهرام وأرض الكاريكاتير.

وسط كل هذا الغم المصري والعربي والعالمي، ترى كاريكاتيرا عبقريا فتظل تضحك إلى أن تشعر بالخجل من نفسك. ومن كان مغضوبا عليه ومصابا بإدمان الحشيش، فسوف يجد أن أسرع الطرق للشفاء والإقلاع، هي متابعة كاريكاتير الصحف هذه الأيام.

لقد أعطت التطورات أصحاب الريشة الذكية نفسا عميقا. ولا أعرف إن كان بين هؤلاء السادة أطباء مثل باسم يوسف، لكن الذي نعرفه أن كليات الطب في مصر لا تخرِّج عالميين مثل مجدي يعقوب فقط؛ بل بين خريجيها أيضا دفعات مثل يحيى الفخراني، أو يوسف إدريس، الذي لعله كان متأثرا بالروسي أنطون تشيخوف، في الأدب لا في الطب.