هل هو ربيع (كاسحات الألغام).. أمام الزحف الصهيوني؟!

TT

في اللغة والتقاليد العسكرية مصطلح (كاسحات الألغام).. ويقصدون بهذا المصطلح: آليات معينة مهمتها الرئيسة: تنظيف الطريق أو الطرق أمام زحف الجيوش من الألغام التي تقتل جنودا، وتفجر آليات، وتعطل حركة الزحف تعطيلا يخل بـ(توقيتات) المعركة: من هجوم وانقضاض ومباغتة العدو وتبديل في موازين القوى.

وبتوظيف هذا المصطلح العسكري في مجال السياسة نسأل: هل ما سمي بـ(الربيع العربي) هو مقدمة أو تمهيد لما هو أخطر منه؟.. هل هو بمثابة (كاسحات ألغام) تمهد الطريق والمناخ العام لبلوغ أهداف أخرى: لا علاقة لها بما اكتنف الربيع العربي من شعارات وصراخات وأمان كذوب (بمعنى أنها مخالفة للوقائع)؟

لنأخذ قضية - متفقا على عدالتها - مثلا وهي (القضية الفلسطينية).. فمنذ أن هبت عاصفة ذلك الربيع وقضية فلسطين لا تزال تتراجع وتتآكل ويجري تناسيها، أو ركلها إلى مؤخرة الذاكرة والاهتمام والقول والفعل.

وبديه أن قضية فلسطين قبل (ربيعهم) هذا لم تكن في أحسن حال، ولا في أوسط حال، بل كانت تتراجع أيضا، بيد أن عدها التنازلي في (زمن الربيع العربي الأجدب) قد هوى درجات كثيرة إلى أسفل الخط البياني.

فهل لهذه الغاية الحرام: جاء الربيع العربي، ودقت له الطبول، ومنح قداسة ليست له بحال من الأحوال؟!

وهل هو (كاسحة ألغام) تمهد الطريق إلى أهداف أخرى لا علاقة لها بالنماء، ولا بالحرية، ولا بالعدالة، ولا بالكرامة.. أهداف مثل: دفن القضية الفلسطينية.. وتأصيل وتأبيد (الظلم الصهيوني) للشعب الفلسطيني؟

إن هذا الربيع (كاسح الألغام) أمام الزحف الصهيوني فحسب: لم يكسح - بمقتضى رؤية الواقع - أي ألغام أمام النهضات الوطنية المرجوة، بل لا تزال الألغام الرهيبة مبثوثة - بكثافة - في طريق النهوض الحق والجدي.. نعم لا تزال الألغام مبثوثة في طريق الأمن والاستقرار.. وفي طريق الوحدة الوطنية.. وفي طريق العمل والإنتاج.. وفي طريق المعايش والخدمات.. وإلا فهاتوا لنا بلدا واحدا من بلدان ذلك الربيع: يعيش في راحة وأمن واستقرار ووحدة وإنتاج ومعايش وخدمات محترمة: ولو نسبيا!!.

ولسنا نتجاهل الوقائع فنطالب بإنجازات كبيرة عاجلة.. وفي الوقت نفسه: ليس من احترام العقل والتجارب: أن تُخدع الأمة بشعار (هذه مرحلة انتقالية) كما خدعت من قبل بذات الشعار الذي رفعته الانقلابات العسكرية فإذا بمرحلتها الانتقالية تمتد نحو ستين عاما حسوما!!.

ألم نقرأ ونسمع في أدبيات الربيع العربي: «ليس بيننا وبين إسرائيل خصومات أبدية».. «دستورنا لا يمنع التطبيع مع إسرائيل».. ومثل ذلك من العبارات التي تندمج في مصطلح (كاسحات الألغام السياسية من طريق الزحف الصهيوني).. ولو قال مثل تلك العبارات الحكام الذين طوح بهم الربيع العربي، لسارعوا إلى تخوينهم وتكفيرهم!!

ثم في أواخر الأسبوع الماضي رأينا الاستعداد للتنازل لإسرائيل عن حدود 4 يونيو (حزيران) عام 1967، بمعنى أن إسرائيل ليست ملزمة بالعودة إلى تلك النقطة، وبمعنى أن مسألة القدس الشرقية قد طويت صفحتها.. ولسنا ننفي أن هناك عوامل كثيرة أوحت بهذا التنازل المروع، لكن العامل الأهم هو الجو العام الرخو المتهافت الذي أشاعه الربيع العربي أو أشاعه - بتعبير آخر - كاسح الألغام السياسية المصاحب لحراك الربيع العربي.

ونحن من المقتنعين جدا بـ(المران السياسي) فمن خصائص السياسة الناجحة أن تكون مرنا، بشرط أن لا تكون المرونة ذريعة للتفريط في حق ثابت، أو ذريعة لتأييد ظلم بواح، وهو ظلم بواح لأنه حتى غير المسلمين في الأمم المتحدة وهم أكثرية رفضوه رفضا موثقا في مواد ومواثيق كثيرة.

وإذا أدرنا السياق بطريقة أخرى قلنا: إن ثمة علاقة بين (صناعة القرار) و(صناعة الأدوية). ففي حقل صناعة الأدوية: لا يكفي أن يكون تركيب الدواء سليما في ذاته، بل لا بد من العكوف على دراسة (آثاره الجانبية)، فكثيرا ما تكون هذه الآثار الجانبية الضارة أو القاتلة سببا علميا طبيا في الكف عن إنتاج الدواء السليم في ذاته، والكف عن تسويقه بالتالي.

ولا ريب في أن لقرار أو اتجاه التنازل لإسرائيل في حدود عام 1967 آثارا جانبية ضارة جدا منها مثلا:

1 - زيادة حدة الانقسامات والتمزقات في المنطقة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين الدول العربية، وفي العالم الإسلامي بحسبان أن قضية القدس - التي شملها التنازل بداهة - هي قضية إسلامية عامة، لا عربية خاصة.

2 - فتح ذرائع سيئة لاتهام (دول الاعتدال العربي) بأنها دول التفريط في الحقوق العربية.. والذين يلقون هذا الاتهام قد لا يكونون أشد حرصا على هذه الحقوق، ولكن لا نظن أنهم سيفوتون هذه الفرصة في تحقيق مكاسب سياسية معينة.. وهذا من الآثار الجانبية الضارة لفكرة التنازل.

3 - في عالمنا هذا: قوى دولية تتمتع بدهاء كبير وشرير وهي قوى تعمل وفق قاعدة (إذا أردت أن تتخلص أو تضعف حليفا ما فمهد لذلك بتشجيعه على ارتكاب الأخطاء القاتلة)، فينبغي التنبه لهذا، وأخذه مأخذ الجد.

4 - في هذا التوجه التنازلي: خدمة كبرى مجانية: سياسية واستراتيجية للنظامين: السوري والإيراني، فهذان النظامان سيستغلان هذا الموقف استغلالا كاملا ناجزا من خلال إظهار نفسيهما بأنهما هما الحريصان الحفيظان على القضية الفلسطينية وعلى القدس بالذات، وأن خصومهما في المنطقة هم أهل التفريط والتنازل، وأن الحرب على سوريا إنما سببها الحقيق هو: رفض تقديم أي تنازل للعدو، إلى آخر هذه التحليلات والتفسيرات.. وفي ذلك كله: دلالتان اثنتان: دلالة تقبيح وجه خصومهما.. ودلالة تجميل وجهيهما من خلال استغلال فعل خصومهما لصالحهما.

والراجح: أن قرار التنازلات اتخذ في غيبة دراسة آثاره الجانبية الضارة.

وليس من الحصافة: التهوين من شأن هذه الآثار الجانبية الضارة للقرارات. فالتاريخ السياسي للدول ناطق بأن معظم الكوارث التي حاقت بالدول كانت بسبب عدم استحضار الآثار الجانبية الضارة لقرارات صحيحة.

ثم نسأل قادة الربيع العربي وجاني ثماره: لماذا لم يسمع لكم صوت في قضية التنازلات هذه؟. ألم تسمعوا بها؟.. أم أنه قد جرى التنسيق معكم بشأنها قبلا؟.. لقد ثرتم على (حكامكم) لأنهم ظلمة.. فلماذا السكوت عن ظلم الصهيونية للفلسطينيين؟.. هل ظلم بني صهيون: أحلى وألطف وأعدل؟.. وماذا تقولون لربكم غدا؟!