مصر تحتفل بعودة الزمن نصف قرن للوراء!

TT

بدأت أشعر بالاستياء من الحكومة المصرية، لأنها تحولني على الرغم مني إلى كاتب معارض طوال الوقت. هكذا أحرم من مهنتي، وهي «كاتب» فقط، تلك المهنة التي تحتم عليّ سماع أصوات الكون الجميلة وتأمل أفعال الناس الطيبة والتنبيه إليها والتبشير بها. يعلم الله أنني كنت أقاوم بشدة طوال الوقت لكي أحافظ على مهنتي جميلة كما عرفتها وكما تعلمتها، وأعتقد أنني كنت أنجح أحيانا، أما الآن فيجب عليّ الاعتراف أنني قد هزمت، وأنه لم يعد أمامي إلا أن أتلقى كل يوم ضربات هذه الحكومة وأن يكون ردي الوحيد هو أن أصرخ ألما.. ولك الله يا مهنة الكتابة في مصر!

احتفال مصر بعيد العمال هذا العام، يتميز بأنه عيد عمال فقط بغير عمل أو عمالة، بل هو أول عيد عمال يمر على مصر وقد أغلقت عشرات المصانع أبوابها بسبب الانفلات الأمني أو العمالي أو كساد حركة البيع والشراء، هو عيد بأثر رجعي، أي أنه يحتفل بالعمال عندما كانوا يعملون منذ نصف قرن، إنه عيد الاحتفال بإنجازات ستينات القرن الماضي، وهو - وهذا هو الأهم - وعد من الحكومة بالسير أو بمواصلة السير على طريق الستينات وطريق عبد الناصر. لقد جاءت لحظات في خطاب الرئيس محمد مرسي التي كان يمجد فيها تراث الستينات الناصرية، تصورت معها أنه سيعلن مواصلة مطاردته للجماعة المحظورة.

لو كنت كاتبا لخطاب الرئيس في هذا العيد، لقلت لهم: أيها السادة.. عدد قليل فقط منكم من قرأ كتاب الرئيس غورباتشوف (البيروسترويكا) غير أني قرأته بحكم اهتمامي بالسياسة، ولأنه ذكر فيه بإخلاص وشجاعة عيوب النظام في الاتحاد السوفياتي التي أدت لانهياره وانهيار المنظومة الاشتراكية كلها، كل الأخطاء التي ذكرها غورباتشوف هي نفسها ما نحتفل به الآن.. عمال لا يعملون ويطالبون بالحوافز، مصانع تخسر خسائر فادحة ويتظاهر عمالها مطالبين بالأرباح.. الضخامة هي ما كان يميز الصناعة في روسيا السوفياتية، إحساسهم بالخوف من الغرب جعلهم يتمسكون بالقلاع ويا حبذا لو كانت قلاعا صناعية. ما ليس هائل الحجم فهو رديء. الآن في هذا العصر، أقصد في الألفية الثالثة، توجد مصانع تحتل فيلا صغيرة أو شقة بها خمسة عاملين فقط يعملون في الإلكترونيات، والمصنع الواحد منها قادر على أن يكسب في ساعة أكثر مما يكسبه في عام.. هذا المصنع الذي نتشرف بالجلوس فيه الآن.

لقد أتيتكم مصارحا لأنني أعرف أن الله سبحانه وتعالى لن يغفر لي إن أخفيت عنكم الحقيقة.. هل تسمحون لي أن أصارحكم؟ (أصوات هتافات: صارحنا يا ريس.. صارحنا.. صارحنا.. حناخد المنحة إمتى؟) ملكية الشعب لوسائل الإنتاج خدعة من خدع التاريخ شاركه فيها بعض المثقفين والفلاسفة الرومانسيين، لأننا عندما نفحص الأمر نكتشف أن المقصود بكلمة «الشعب» هو الحكومة. من الناحية العملية كانت الحكومة هنا وفي بلاد المنظومة الاشتراكية كلها هي من يملك ويتحكم في كل شيء، هذا المصنع عظيم لأنه يجسد قدرة المصريين على البناء ورغبتهم الأكيدة في التطور، ولكن الحكومة المصرية وأي حكومة أخرى على وجه الأرض عاجزة عن إدارته بما يحقق أرباحا، نحن نستطيع إدارته فقط بطريقة تحقق لنا أكبر خسائر ممكنة، وبالمناسبة هذا الأمر قديم جدا. لقد كانت هناك أسهم بالدولارات لملكية هذا المصنع انخفض فيها سعر السهم إلى أقل من قرش واحد وضاعت فلوس الناس الذين كانوا يصدقون ما يسمعونه في التلفزيون وما يقرأونه في الجرائد. الستينات نبع للذكريات الجميلة والسيئة، بل السيئة جدا. لا تنسوا أن هزيمة يونيو (حزيران) حدثت في الستينات أيضا. هناك برنامج ثابت في عقل الإنسان، ربما يكون أقوى برامجه، وهو المكان والزمان، تستطيع أن تنتقل بحرية وسهولة من مكان إلى آخر، إلى الأمام وإلى الخلف، أما الزمان، فمسموح لك فقط بالانتقال إلى الأمام، لا أحد على وجه الأرض قادر على أن ينام في سريره اليوم ويستيقظ بالأمس، لا بد أن يستيقظ في الغد. لا بأس من تذكر الستينات، أما أن نبني على إنجازاتها ونواصل مسيرتها، فهذه خرافة. أنا على يقين من أنكم لن تصدقوها. هذا القطاع العام الذي تحول إلى جثة هامدة من المستحيل إحياؤه بغير مساعدة الاتحاد السوفياتي، والاتحاد السوفياتي لم يعد له وجود، لقد تأكدت من ذلك عندما كنت هناك، هناك شيء آخر اسمه روسيا، وهي لم تعد مهتمة بالعالم الثالث، هي مهتمة بمواطنيها فقط، ولذلك لا بد لي من رحلة طويلة عبر دول الأرض أطلب فيها معونات وقروضا ومنحا لإدارة هذه القلاع الصناعية، ثم تسديد هذه القروض من أرباحها.. ولكنها لن تحقق أرباحا، أنتم تعرفون ذلك جيدا، ستخسر فقط على طول الخط وإذا كانت ستنجح في شيء فهو زيادة أقساط الفوائد والديون التي نسددها كل عام، كان هذا هو ما حدث ويحدث طوال نصف القرن الماضي.. كل بطولاتنا لم تكن أكثر من خسائر عالجناها على الورق بالامتناع عن تعليم الناس، وعن علاجهم لكي نوفر لهم ما يأكلونه، وكانت النتيجة، أكبر كمية من الجهل والجهلاء عرفها شعب في العصر الحديث. والجهل لا يكتفي بأن يظل جهلا بل هو قادر على تحويل البشر إلى كائنات متوحشة، وأنا أعتقد أنكم لا ترحبون بذلك. (أخبار المنحة إيه يا ريس؟) اطمئنوا ستحصلون على المنحة.. بل ستحصلون عليها بزيادة 50 في المائة عن آخر مرة (المسؤولون في وزارة المالية فسروا قراره، بأن العامل سيقبض المنحة مقسومة على خمسة ومضروبة في ستة على ثمانية بعد خصم ما سبق له أن قبضه في يوليو/ تموز 1989 بشرط ألا يتعارض ذلك مع ما سبق له أن قبضه في يونيو 2001). لا أحد قادر على العودة بالزمن إلى الستينات أو أي زمن آخر، ولعل أول من لفت نظرنا إلى ذلك هي السيدة أم كلثوم عندما قالت: عاوزنا نرجع زي زمان.. قل للزمان ارجع يا زمان.

أيها السادة عمال مصر.. أنا أتحمل مطارق النقد التي تهوي على دماغي طوال الليل والنهار، اسمحوا لي أن أنتقدكم قليلا، لم تعودوا «الفرخة بكشك» في المنطقة العربية لقلة تدريبكم أو انعدامه، ولأنكم أيضا - كما يقال - منتجون للمشاكل. فكروا في ما أقول، وما يقال عنكم، العالم كله على استعداد للإنفاق على تدريبكم طبقا لأحدث صيحات التكنولوجيا، ولذلك فأنا أطلب منكم أن تكفوا عن إرضاع أنفسكم وأطفالكم كراهية العالم، لا أحد في العالم يريد تفتيتنا وتقسيمنا والذهاب بنا في داهية. هناك خيار آخر ربما يتحقق بعد زمن طويل، وهو إعطاؤنا الفرصة للنجاح في مشروع الخلافة الإسلامية، عندها سنكون أساتذة هذا العالم.. غير أنني أحذركم، حتى بعد الخلافة وبعد أن نصبح أساتذة العالم، ستظل البنوك تطالبنا بتسديد ما علينا من ديون، ولديهم من الوسائل ما يرغموننا به على ذلك.. سيقولون لنا أساتذة أساتذة، بس ادفعوا اللي عليكم. فكروا واختاروا، والسلام عليكم ورحمة الله.