حكايتي مع الضيف العزيز

TT

في سنة من السنوات الخوالي، حيث لا تليفونات جوالة، حل أحدهم علي ضيفا في منزلي وأكرمته لمدة يوم كامل، وعرفت منه أنه قد ترك التدريس بجامعة الرياض وانتقل إلى وظيفة أخرى في جدة، وأنه في الصباح سوف يسافر إلى الرياض تلبية لدعوة من عدد من طلابه تكريما له، وكل واحد منهم سوف يعزمه في بيته، فأكبرت لطلابه النجباء مواقفهم النبيلة تلك.

وفي اليوم التالي وبعد أن تناول وجبة الفطور التي هيأتها له على أكمل وجه، ودعني بالقبلات والتشكرات، وبعد أن ذهب وأغلق الباب خلفه، لاحظت أنه قد نسي (رزمة) أو عدة ظروف رسائل عددها ستة ومربوطة بالمطاط، فناديت على عاملي المنزلي وأعطيته إياها ليلحق به ويسلمه إياها، غير أنه عاد والرسائل معه، معتذرا بأن الضيف قد انطلق بـ«التاكسي» قبل أن يصل إليه.

وحيث إن كل رسالة مكتوب على غلافها الاسم والعنوان، بل إن طوابع البريد ملصقة عليها وجاهزة للإرسال، قلت للعامل: اذهب بها وأودعها صندوق البريد.

وما هي إلا عدة ساعات، حتى سمعت (عصفور) الباب يصدح - أي جرس الباب الذي جعلته يشبه زقزقة العصافير - وما إن فتحت الباب فإذا بي وجها لوجه مع ضيفي الذي ودعته، فسألته فزعا ومتعجبا: هل معقول أنك سافرت للرياض وعدت بهذه السرعة؟!

فقال لي وهو يلهث: أرجوك دعني أدخل وأسترد أنفاسا قليلا، قلت له: ادخل على الرحب والسعة، وأسعفته في الحال بكوب ماء بارد، قربعه دفعة واحدة، وبعد أن مد قدميه وفك «أزارير» ثوبه قال لي: الواقع أنني عندما كنت في المطار وقبل أن أركب الطائرة، شاهدني بالصدفة المدير في المصلحة الحكومية التي سوف أعمل فيها في وظيفتي الجديدة وقال لي: الله جابك، إنني رجعت لتوي من سفرتي للخارج، وأريدك أن تمكث في جدة لعدة أيام، فهناك أمور كثيرة أريد أن أتناقش فيها معك وكلها تختص بعملك معنا، وطلب مني أن (أكنسل) رحلتي، وهذا ما فعلته، ولهذا عدت إليك.

فلم أملك إلا أن أقول له: لا حول ولا قوة إلا بالله، أهلا وسهلا.

وفجأة سألني قائلا: ألا بالمناسبة، لقد نسيت عدة رسائل عندك، أرجوك أن تعطيني إياها. ولكي أظهر له مدى حرصي قلت له مفتخرا: اطمئن، لقد وضعناها كلها في صندوق البريد (حط في بطنك بطيخة صيفي)، فوراءك رجل يعرف كيف يتصرف.

عندها صعق وكاد ينط في حلقي قائلا: ليه، حرام عليك، لقد فشلتني.

الواقع أنني ذهلت، ولكن ذهولي تلاشى عندما عرفت منه أنه قد كتب مقدما الشكر لكل طالب من طلبته على استضافته وما قدمه له من الأكل والمشروبات، وأنه كان سوف يبعث بها لهم بعد أن يودعهم ويعود، والآن سوف يكتشفون بعد أن تصل إليهم هذه الرسائل كم هو منافق، وكاذب.

بعد هذه الحادثة الغبية من قبلي، قاطعني، وأصبح لا يشاهدني في أي مناسبة حتى يدير لي وجهه، ونكاية مني فيه فقبل أن يدير هو لي وجهه أكون أنا قد لعبت له حواجبي.

[email protected]