الشيخ صالح الحصين: زاهد الحرمين

TT

مع تقدم الأزمان ربما، إلا ما شاء الله، ينقطع الزهد وينقرض الزهاد، وتضيق الأرض بالأطماع والأنفس الشح وطغيان المظاهر، في عملية عكسية صارت تلحظ مع نمو البشريـة ورخاء المداخيل.

والشخصية التي بين يدي المقال هي من الندرة في هذا الزمن.. حالة خاصة في تنوع التخصصات، وإنسان لا ترتوي نفسه من مجاورة الحرمين الشريفين، وبقية من جيل زاهد بدأ يتلاشى، وبخاصة بين طلبة العلم الشرعي الذين يفترض أن يكونوا قدوة في مجتمعاتهم وسلوكياتهم.

شخصية الشيخ الحصين ولدت من عجينة خاصة، كل مركبات جيناتها من الزهد في القول، والزهد في اللباس والمأكل والمشرب والمركب، والزهد في التصرفات، والزهد في الأضواء، وكأنه من جنس من البشر عرف أسرار التطوع ومعاني قوته وعظم أجره فأراد أن يكسب ذلك لنفسه، وأن يكون قدوة لمحيطه، كما أدرك زيف الحياة الدنيا وشهواتها ومغرياتها ومظاهرها، فرصدت له أوساط المجتمع الذي عاش فيه، كثيرا من حكايات التقشف، تدل على بساطة حياته وسماحة نفسه وعزوفها عن البهرجة والمظاهر الزائفة.

من طريف ما يروى نموذجا لعزوفه عن المظاهر، ما رواه شاهد حال، أن الشيخ الحصين أتى مرة إلى مكتب الملك فيصل، وكان يتأبط عباءته بدلا من ارتدائها، فطلب منه الجندي أن ينزاح قليلا عن المدخل كي يفسح المجال لدخول الملك، وهنا لحظه الملك واتجه إليه حيث كان منزويا، وأخذ بيده أمام انبهار الحضور من هذا المشهد.

لقد كان الشيخ الحصين بمثل هذا التواضع «المعلم» لمن حوله في نهج الحياة، وفي أسلوب المعيشة ونزاهة اليد، فبينما يتسابق البيروقراطيون وذوو الجاه إلى التشبث بالرونق و«البريستيج» نجده يستكشف جوانب المتعة والتلذذ والمنطق في تبسيط أساليب الحياة، عندما يتعفف عن ركوب المقاعد الوثيرة في الرحلات الجوية، ويجد أن حافلة النقل العام بين مكة المكرمة والمدينة المنورة هي الأقرب والأسهل والأسرع زمنا للوصول بين النقطتين، وهي تصرفات لا تصدر عن بخل أو تقتير؛ لأن دروب الخير ومصارف الإحسان مفتوحة أمامه، بل هي جزء من حياته اليومية لا يدري عنها سوى أقرب الناس.

إن شخصية بهذه المعاني لا بد أن يتمثلها في العلاقة مع الناس، في السماحة ولين الجانب وطيب النفس ولطف المعاشرة وعفة اللسان، وفي البر بأهله وبوالديه، وهو الذي كان ينام إلى جوارهما، باذلا النفس لخدمتهما، قائما على طاعتهما، محققا رغباتهما واحتياجاتهما، مبصرا الجنة تحت أقدامهما.

أما الأمر الثاني اللافت للنظر في شخصية هذا المقال، فهو في تنوع مداركه المعرفية، المتمثلة في الإلمام بعدد من اللغات، وبمبادئ الاقتصاد والعلوم الطبية، وبأفكار بعض الفلاسفة المسلمين والغربيين، مما يجعله يبحر في الحديث الفلسفي واللغوي والطبي عندما يطلب منه التعليق في بعض المحافل الفكرية والثقافية.

لقد تعود المجتمع بالنسبة لمن عرف في جيل الشيخ الحصين المولود في حدود عام 1932 وفيمن سبقه، أن يكون أخذ العلوم قديمها وحديثها من مشايخ عصره، الذين عادة ما يجيزون طلابا يتعلمون على أيديهم، وبخاصة في حِلق الحرمين الشريفين، لكن الواضح أن شخصية هذا المقال قد شدا طرفا من معارفه العلمية الإضافية بنفسه، حيث إن التخصص الشرعي لم يعد الغالب على مجموع المعلومات التي يحوزها، وهو الذي يظن كثير من الناس أنه محسوب على العلوم الشرعية فحسب، فهو على سبيل المثال، كثيرا ما يدعى للحديث في مسألة التورق والاقتصاد من منظور إسلامي، فتظنه المتخصص أكاديميا في هذا الشأن، بسبب ما يستبينه الحاضرون من تعمقه في الموضوع ومعرفة فروعه، بينما هو في الواقع اكتسب المعرفة في الاقتصاد من خلال اهتماماته الشخصية وقراءاته الذاتية، وما زلت أذكر واحدة من محاضراته التي غصت بها قاعة مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، دار الحديث فيها عن فصل من فصول الاقتصاد في الشريعة الإسلامية، وكنت حضرت معه نقاشا جميلا مع المستشرق الألماني المسلم د. مراد هوفمان، أوضح فيه مقاصد المشرع من تحريم الربا وتعاملاته.

الشيخ الحصين من أسرة معروفة في مدينة شقراء (بإقليم الوشم القريب من الرياض) وقد تخرج في كلية الشريعة في مكة المكرمة 1954، وفي أثر ذلك نال الماجستير في الدراسات القانونية من مصر 1960، ثم عمل مستشارا لوزارة المالية والاقتصاد الوطني في عهد وزيرها المشهود له بالحزم والترشيد «الأمير مساعد بن عبد الرحمن»، واختير بعد ذلك وزير دولة ورئيسا لهيئة التأديب، وكلف رئاسة هيئة الخبراء (القانونيين) في مجلس الوزراء، وقد فضل بعد ذلك أن يستريح من الوظيفة العامة ويتفرغ لمجاورة الحرم النبوي الشريف، والإسهام في جهود الدعوة، فلقد كان يجد في الاحتساب الخيري والاجتماعي والإنساني أكثر إمتاعا وقربا لنفسه.

ومع ذلك، فقد استدعي عام 2002 لواجب الخدمة في أشرف موقع يمكن أن يجمع فيه بين سدانة الحرمين الشريفين وخدمة المسلمين، واختير في الوقت نفسه عام 2004 مشرفا على برنامج الحوار الوطني الذي تبناه الملك عبد الله، وظل يسهم بالكثير من المشروعات ذات الطابع الخيري والإنساني، ويواصل - دون انقطاع - هوايته في البحث العلمي الجاد، وفي العام الماضي تعاطف معه الملك عبد الله عندما رأى أنبوب الأوكسجين - بسبب معاناته الربو - ملازما له أينما حل، فاستجاب لرغبته في التحلل من الإشراف على شؤون الحرمين الشريفين، والتفرغ للعبادة والدعوة والدراسات.

رحم الله الشيخ، البقية الباقية - إلا ما شاء الله - من تواضع العلماء والزهاد.

* باحث وإعلامي سعودي